شعار قسم مدونات

أم الفحم.. رسائل نورانية

blogs - أم الفحم
ربما علينا أن ندرك الآن أن التسمية الاصطلاحية الحديثة التي أطلقها محبو مدينة (أم الفحم) عليها وهي (أم النور) لم تكن لتساهم في تأكيد شمائلها، رغم أن بواعث التسمية الحديثة كان منشؤها ذلك الدور العظيم لمدينة أم الفحم في الداخل الفلسطيني، وفي منطقة المثلث تحديدا، في الحفاظ على الهوية الإسلامية العربية لفلسطينيي الداخل ومقاومة التهويد، إضافة إلى دور رموزها ومؤسساتها في إضاءة الوعي الديني والثقافي والوطني هناك، ثم جهودها الكبيرة في حراسة المسجد الأقصى والذود عنه، ليس فقط من خلال ما يقدمه شيخ الأقصى رائد صلاح، ابن المدينة، ورئيس الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر، إنما كذلك عبر كوادرها البشرية التي مثلت درعاً حقيقياً للأقصى في أوقات الأزمات، وعند اشتداد الأخطار.
 
سيذكر التاريخ لأم الفحم أن أكثر أهلها رفضوا الخروج منها عند احتلال فلسطين عام 1948م، وأنها ظلت شامة على وجه النضال الفلسطيني في الداخل، بطابعه الشعبي الذي ظل يناوئ جميع المخططات الصهيونية، ويتضامن مع الأحداث الملتهبة في الضفة وغزة خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، ثم الحروب الثلاث على غزة. وأن المهرجان السنوي فيها (الأقصى في خطر) ظلّ أكبر تجمع فلسطيني تُجدَّد فيه البيعة للمقدسات، ويُعقد خلاله لواء شحذ الهمم للدفاع عن الأقصى، وتعبئة العزائم بزاد حبه والتعلق به واعتناق قضيته.

صباح الجمعة الفائتة، رأينا جيداً كيف أن الفحم يمكن أن يكتنز نوراً فائضاً وحرارة وفيرة إذا توفرت له عوامل الاشتعال، وكيف أن الانتساب للفحم ليس فيه نقص أو امتهان، لأن التهاب جمراته سيظل ممكناً حتى وإن بدا للرائي هامداً وجافّا، ولأن سواد لونه يمكن أن يستحيل حمرة قانية، تنزّ من دم المقاتلين، كما تلوّن الآفاق ببوارق الثأر.

هكذا دائما، سيظل هناك من يهندس شكل حياته بالقلم والمسطرة والحسابات العقلية الجافة، في مقابل من يبصر مكانه المتفاعل وإن غطاه ألف حجاب، ثم يبلغه وإن حالت دونه الحواجز.

كانت جليّة ومباشرة، تلك الحقيقة التي استقرت في قلوب فتية (أم الفحم) الثلاثة حين عزموا على تنفيذ عمليتهم في القدس، لم يكونوا بحاجة لمن يحرضهم على النهوض أو يذكرهم باحتلال الأقصى، لأن وعيهم بفريضة الجهاد كان ناضجاً وساميا، ولا تُداخله الفلسفات المقيِّدة والمقعِدة عن النفير، ولأن مساحة النور في قلوبهم كانت رحبة ويرتعش حولها الظلام، ولأن الألق في جباههم الوضيئة كان مستقىً من نور السماء إذ تتنزّل منها الرحمات.

كان هؤلاء الفتية قد آمنوا بربهم ابتداءً فزادهم هدىً، وجمّلهم بالإقدام، ثم أكرمهم بالشهادة قرب صخرة المعراج، أما سلاحهم البسيط فكان يبسط أشواقه وغضبه في أزقة القدس القديمة، فيردم شقوق الفضيحة التي ما تزال ماثلة منذ احتلال القدس على مرأى ومسمع من جيوش الأنظمة العربية، ويزري مليارات النفط الحديثة المنفقة على شراء الطائرات والدبابات، دون أن تكون القدس في مدى مدافعها.

ثمّة رسائل نورانية كثيفة تقاطرت من حالتي الشجاعة والشهادة في عملية القدس، إنْ من الخلفية المكانية لمنفذيها، وإن من مستقرّ تنفيذها، أو من فحوى تلك الضربات التي بات يتلقاها المحتل (رغم محدوديتها) من حيث لا يحتسب، وفي مأمنه ووسط حشوده وتحصيناته. غير أن تلك الدلائل ظلت غائبة، أو مغيبة، في ظل الانشغال بسيل الفلسفات المضادة التي أعقبت العملية، والمزايدات واتهامات التقصير المتبادلة التي أعقبت إغلاق المسجد الأقصى.

وهكذا دائما، ستظلّ تلك الهوّة في اتساع بين مدرك متطلبات دوره دون ضجيج، والمتخذ أقصر الطرق للنهوض به، ثم بلوغ المجد، وبين من لا يملك غير ترف الفكر والكلام، للاحتجاج على الفعل المقاوم، والمناداة بالعقلانية في غير مقامها، واستنكار الابتهاج بالعملية أو الإعلاء من شأن منفذيها، بدعوى ازدرائه التعامل العاطفي مع الأحداث.

وهكذا دائما، سيظل هناك من يهندس شكل حياته بالقلم والمسطرة والحسابات العقلية الجافة، في مقابل من يبصر مكانه المتفاعل وإن غطاه ألف حجاب، ثم يبلغه وإن حالت دونه الحواجز. الأول سيظل رقماً عابراً للحياة، أما الثاني فيهزّ بيمينه مجرى التاريخ لتنهمر منه ثمار التغيير، وذلك هو الفرق بين من يرى أولويته في تحسين ظروف العيش تحت الاحتلال، ومن يراها في استنفاذ جهده لتحرير بلاده، حتى لو كان كل ما يملك بندقية قديمة الطراز، ومحلية الصنع، لكن أثرها في كفَ المقدام يفوق صاروخاً على كتف الجبان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.