شعار قسم مدونات

لماذا يبتلي اللهُ الناسَ؟

blogs - قرآن
كنتُ أتساءل حين أقرأ في التأويل Hermeneutics أو التفسيرات الباطنيّة للقرآن: إذا كان فهم القرآن بهذا القدر من الغموض ويتطلّب قدرات ذهنية ومعرفيّة كبيرة، فكيف إذن يكون مطلوبًا من بسطاء العقول أن يؤمنوا بشيءٍ هو أكبر من قدرتهم على الاستيعاب؟ كان هذا سببًا جوهريّا في أن أوقن أن التفسيرات الباطنيّة هي تفسيرات هوائيّة لا علاقة لها بمعاني القرآن الظاهريّة. فالحقيقة والحق دائمًا بسيط حتى يصل له أبسط العقول وأعقدها (اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) حق بسيط الفهم وضّاحٌ، وهو بداية الطريق إلى الفهم السليم للحياة، وحتى موانع الوصول إلى هذه الحقيقة واضحة بدأت من قبل بداية خلق الإنسان (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) شعورٌ دنيوي بالحسد والحقد والغرور أصاب أبليس فأخرجه من رحمة الله.

لو أن إبليس لم يعصي الله، أو لو أن آدم وجميع ذريته عاشت في الجنّة دون وسوسة إبليس لاختلط الخير بالشر في ذرية آدم. لهذا كان لابد من اختبارات تنقية تفصل المؤمنين عن غير المؤمنين، مصفاة تفرق بين الشر والخير. ولقد بدأت هذه الاختبارات باختبارٍ لآدم وزوجتهِ (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ) هكذا بدأت مرحلة المصفاةُ الكبرى في عملها (الحياة الدنيا).

غفر الله لبغيٍّ لأنها أسقت قطًا، وعذب في النار امرأة لأنها حبست قطًا أو عذبتهُ. فماذا فيمن يعذب الناس ويقتلهم ويغتصبهم ثم يدعي أن للبعض من اتباعهِ الجنة. أيشبهُ الأمر فتنة المسيخ الدجال، الذي نارهُ جنة وجنتهُ نارًا.

لكن ماذا لو أن إنسانٌ ما في عصرٍ ما، عاش في بيئةٍ تمتلئ بالإيمانِ لا يأتيها الباطل من حولها؟ فعبد الله كما ينبغى وصام وصلى وأتقى؟ فهل مرّت على فردٍ كهذا المصفاةُ التي تختبر حقيقته؟ بالتأكيد لا.
في قصة (كازينو الفردوس) الفانتازية يحكي توفيق الحكيم عن شيخٌ عاش في حارةٍ منسيةٍ لا يفعل شيئًا إلا الذكر والصلاة على النبي، ويعطف عليهِ أهل الحارة بالطعامِ والمأوى ويستأنسون بدعواتهِ، ثم لما مات أرجعتهُ الملائكة للحياة مرة أخرى لأنه لم يعاني في الدنيا ولم تكتمل اختباراته وامتحانه ليحظى بالعقاب أو الثواب. لهذا، وخلال سنوات الرسول في البعث والنبوةِ ونشر الإسلام، كان صراعهُ مع كفّار قريش، فما أن فتح مكة وانتصر حتى توفي بعدها، وبدأت حروب الردة بيد الصديق صاحب رسول الله.

لم تدم بعد ذلك فترة الرخاء على يد الفاروق وذو النورين أكثر من عقدٍ وبضع سنواتٍ أي أقل من جيلٍ واحد، بدأت بعده الفتنة الكبرى بين عليّ وأتباعهِ وبين معاوية وأتباعهِ، ثم انقسام أتباع علىّ إلى خوارج وشيعة، ثم تفتت الشيعة لعشرات المذاهب كل إمامٍ لديهم بمذهبٍ مختلف، وبدء التحريف والتأويل لكلام الله بدعوى من الفرق الباطنية، وعلى الجانب الآخر؛ جانب معاوية الذي ألغى الشورى وأحل الملك والتوريث، ثم حربهِ مع آل البيت هو وذريته فقتل أحد ابنائه الحسين حفيد رسول الله، ثم قتل الحجاج ابن الزبير وأسماء ذات النطاقين وقال البعض أنه ضرب أو كاد يضرب الكعبة بالمنجنيق، واستمر تاريخ طويل من الفتن والدماء.

لا يدوم الانتصار والرخاء لأكثر من جيلٍ واحد، بينما تستمر محاربة الباطل والفساد والظلم لسنواتٍ عديدة تمتلئ بالاختبارات الإلهية والامتحانات التي تكشف جوهر الإنسان وحقيقته التي ربما لا يعرفها هو نفسه. فإذا كانت المصفاة الكبري تفرق بين من يؤمن بالله ومن لا يؤمن بهِ، فقد أتى الآن زمنٌ يمتلئ بالمسلمين بالوراثة. المسلمون في بطاقاتهم فقط بينما أفعالهم وأقوالهم لا تتفق بشكلٍ كبير مع الإيمان الحقيقي، من هنا جاءت مرشحات أشد توضيحًا هي الفتن، مهما كانت بسيطة كالافتتان بامرأةٍ أو بثروةٍ (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أو فتن كبيرةٍ كفتنة المسيخ الدجال. (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) فالابتلاءات انما هي امتحانات أخرى يختبر الله بها عباده المؤمنين، لأن الطريق إلى الجنّةِ والنعيم الأبدي ليس هينًا بالتأكيد.

بالتالي لا يمكن أن نفصل ما يحدث في حياتنا عن السبب الحقيقي لوجودنا. مهما اختلفت الآراء ومهما كبرت أو صغرت المحن، ستعرف الحقيقة ببساطةٍ متناهيةٍ إذا اتبعت فطرة القلب (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). هذه هي البساطة المتناهية التي تكشف لك الطريق إلى الحق. أن يخلو قلبك من الغدر والغرور والتكبر والحسد والرغبة في الانتقام والغل وكل أمراض القلب الأخرى.

معجزاتُ متتاليةٍ يأتي بها الله لعلهم يؤمنون ويرسل لهم من الأنبياء والرسل ما لم يرسله لقومٍ آخرين إلا أن أفعالهم الفاسدة هي التي أصَّلَت الكفر في نفوسهم، ليأتي التعبير القرآني المعجز يفسر حقيقتهم ببساطةٍ متناهية.

انزع من قلبك الغل والغضب والكراهية والخوف وعدم الاكتراث والاستهزاء، واتبع سنة الله في أرضهِ في العدل والمساواة بين الناس و حب الخير للناس والحرية والكرامة والتقدير للجنس الآدمي، وافعل هذا بصدقٍ وتجرّد، ولسوف تجد الحقيقة ظاهرةً جليةً. من هنا يأتي الصراع والاختبار، وهو ليس حربًا ضد الآخرين، وإنما حربًا مع نفسك لتنزع عنها سموم الشيطان . وتنقي قلبك، لتأتي إلى الله تعالى بقلبٍ سليم. لقد غفر الله لبغيٍّ لأنها أسقت قطًا، وعذب في النار امرأة لأنها حبست قطًا أو عذبتهُ. فماذا فيمن يعذب الناس ويقتلهم ويغتصبهم ثم يدعي أن للبعض من اتباعهِ الجنة. أيشبهُ الأمر فتنة المسيخ الدجال، الذي نارهُ جنة وجنتهُ نارًا.

ولماذا يكون المسيخ الدجال فتنةً رغم معرفة الجميع بأنه مسخًا سيأتي مدعيًا الألوهية وهو يقتل ويغتصب ويفسد في الأرض، كمسوخٍ أخرى في الأرض حاضرةً تدعي البطولة وهي تقتل وتغتصب وتفسد في الأرضِ وتعد الناس بالعسرِ والمزيد من المحن؟ لأن المسيخ الدجال، أو مسوخ العسكر كلاهما يثير في النفوس أشر نوازعها، من كراهيةٍ وخوفٍ و نفاقٍ و طمعٍ ورغبةً في التسيد والقتل. فإذا نًزعت هذه الأمراض من النفوس والقلوب، تجلت الحقيقة بارزةً ظاهرةً. أن هذا مسخًا مكتوبٌ في جبينهِ (كافر) لكن الناس تتغاضي عن الأمر وتغض طرفها خوفًا وطمعًا ونفاقًا، وأن هذا قاتلٌ أتى بأبشع الأفعال والأعمال، تتساءل كيف وصل لمكانتهِ هذه بقامتهِ المتدنية ذلّا وهوانًا ؟

إن الشر والكفر يتأصل ويتوغل في قلوب الفسدة من جراء أفعالهم. حتى بني اسرائيل بكل ما أتى لهم من معجزاتٍ وأنبياءٍ توالت بينهم؛ إلا أنهم ظلوا على فسادهم. أخرجهم موسى بمعجزاتٍ إلهيةٍ من تسعِ آيات ثم اخذهم إلى معجزة أخرى هى شق البحرِ، ولم يكد يتركهم أربعين ليلة حتى عبدوا العجل، ثم رفع الله الطور فوقهم فأطاعوا تحت التهديد ثم تخلفوا عن القتال وفتح القدس ومحاربة العماليق، ثم طلبوا رؤية الله جهرةً فنزلت عليهم الصاعقة، ثم تاهوا في الأرضِ أربعين سنةٍ . معجزاتُ متتاليةٍ يأتي بها الله لعلهم يؤمنون ويرسل لهم من الأنبياء والرسل ما لم يرسله لقومٍ آخرين إلا أن أفعالهم الفاسدة هي التي أصَّلَت الكفر في نفوسهم، ليأتي التعبير القرآني المعجز يفسر حقيقتهم ببساطةٍ متناهية (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ).

القلب السليم وحده هو ما ينجح في اجتياز الابتلاءات والمحن والفتن، ثم يأتي بعد ذلك تثبيت الله لعبدهِ على إيمانهِ. وما دون القلب السليم تتلون القلوب بين الأسود وبين درجاتهِ المائعة الباهتة التي تفلسف الأمور وتبرر الأخطاء وتضع نفسها حكمًا على الجميعِ دون نفسها، ثم تهرب من اجتياز الامتحان بدعواتٍ مختلفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.