شعار قسم مدونات

الولادة من صخر الغياب

blogs حزن

ثمة ما لا تستطيع أن تبوح بهِ، ثمةَ أحداثٌ تمر بك وتمر بها، تستطيع أن تختزلها في صور وفي كلمات وفي جُمل وربما لا تكفيك صفحات كبيرة لتُخطها، لكنك في لحظةٍ ما عندما تكون على وشك الانفجار، تحاول أن تبوح بكل هذه المكنونات التي ترسبت بفعلِ زمنٍ متطاولٍ من الحسرات، لكنك تعجز فجأةً، ويعتريك الوهن، ثم ما يلبث هذا الحماس وهذه الرغبة بالبوح ما تلبث أن تنطفئ ثم تذوي، فتقعد محسورًا تتخبط في محبس آلامك، تائهًا في متاهات أفكارك وظلامها، هناك حيثُ العدم يتربع على عرش نفسك المصدوعة.

وتكرر المحاولة مراتٍ ومرات ويعتريك الخوف من أن تُوصف بالخواف والضعيف، وأن ينعتك الشامتون بأنك هشٌ، ويُشفق عليك المحبون ببعض الدعاء. لكنك وفي لحظة جنون عظيمة، تتخذُ قرارًا، قرارًا بأن تفتح صنبور الكلمات هذا عن آخره وتتخلص من هذا القيح الذي بات يُمسك بأحشائك كثعبانٍ يلتفُ عليها ويريدُ افتراسها..

في تلك اللحظة التي يهبطُ على روحكَ ذلك اليقينُ المرصع بالكبرياء، بأن لك جذرًا غائصًا في قاع الوجود وأنك ثابتٌ أمام عصف الأعاصير، لا يعنيك ما يقول المصابون بالكراهية ولا حتى المشفقون، في تلك اللحظة ستبوح بكل ما يعتورك متى شئت ذلك. الآن وبعد انقضاء أربع سنوات ونيف على خروجك من وطنك، بعد مرور هذا العُمر الراكض كطفلٍ خفيف إلى ما لا تعرف، بعد كل هذا الأيام المتناقضة، صرتَ تعرف الكثير، الكثير عن الكثير، تعاركت مع الحياة وتبارزت مع اليأس وتسابقت مع الزمن.

لم تكن تدري بأنك وما أن تخرج من هناك، هناك حيثُ ولدت ذات خريف، هناك حيث تختلف الألوان وتختلف الأشياء وتختلف طبيعة الأشياء لم تكن تدري بأنك ستولد من جديد، لكنك ستولد من صخر الغياب، ستولد مُشوهًا، ستولد ميتًا ربما

تصادمت مع الألم، تعرفت على ماهيتهِ، وجربتهُ كما لم يفعل كثيرين في هذه الدنيا.. ومن قسوة الدنيا صار لزامًا عليك التدرب على التعامل مع الألم، صار لزامًا عليك أن تروض هذا الوحش، حتى إذا هم هذا الألم بالرحيل إستبقيتهُ كي تؤنس وحشتك وتملأ فراغ وجدانك، فأن تعيش متألمًا خيرًا من أن تعيش بلا معنى ولا جدوى، خيرًا من أن تعيش على الحياد كأي حجرٍ باردٍ تحت المطر..

لم تكن تدري بأنك وما أن تخرج من هناك، هناك حيثُ ولدت ذات خريف، هناك حيث تختلف الألوان وتختلف الأشياء وتختلف طبيعة الأشياء، هناك حيث الأبدية وريحُ الأنبياء وسحرُ النبوءات وقداسة المكان وخصوبة الشمس، هناك حيثُ البكاء، حيثُ التاريخُ الذي توقف فجأةً بعد أن جفت دماء الأوفياء، حيث الليل الطويل وحيث الضجيج المسموم بالموت الذي يُدنسُ المقدس ويغتال الزيتون والقمح والإنسان الذي وُلد من رحم التراب قبل آلاف السنين.

لم تكن تدري بأنك ستولد من جديد، لكنك ستولد من صخر الغياب، ستولد مُشوهًا، ستولد ميتًا ربما. منذ قليلٍ فقط، خرجتُ من غرفة التصوير بتقنية الرنين المغناطيسي.. ألمٌ جديدٌ إذن! صداعٌ مُكابر ومتغطرس ومتعالِ، لا يأبه بمشاعرك ويسخر من المسكنات كما يسخرُ الطغاة من شعوبهم عندما تثور عليهم! بعد تسعة أشهر من الصداع والعيش بين آلاف الشياطين التي كانت تنفثُ سمها في ريقك وتُجرعك الخوف والرهبة فتستحيلُ حياتك جحيمًا.

بعد هذا العذاب كله تفشل في استقصاء علة ألمك، لم تُفلح في أن تدخل ذلك الدهليز المظلم. أخبرتني فنيةُ التصوير أنني سأبقى داخل الجهاز خمس عشرة دقيقة بعد أن حُشر رأسي داخل خوذة ضيقة لا تكشف إلا العينين، شعرتُ أن الخوذة أثقل من صخرة، وبعد عدة محاولات فشلت بأن أبقى داخل الجهاز لأكثر من عشرين ثانية، شعرتُ بخجلٍ كبير، كيف لهذا الشاب الطويل عريض المنكبين ألا يقوى على البقاء داخل جهاز للتصوير مدة ربع ساعة؟ قلت في نفسي سألجأ للأشعة المقطعية، جهاز الأشعة المقطعية أسهل وأسرع، وهو صديقي الصدوق، الذي لم أكن أتخيل في حياتي أن أجلس تحت أشعته أكثر من خمس مرات في أقل من سنتين!

لم تستغرق العملية أكثر من خمس دقائق، وما أن انتهيت قالت لي فنيةُ الأشعة يبدو أنك مصابٌ بالشقيقة فالصورة مبدأيًا سليمة. هنا تدفق الدم إلى الوجه الشاحب، وإخضوضرت الحياة بعد أن أجدبت شهورًا طويلة. مزيد من الطاقة، مزيد من الأمل، مع تلاشي غريب لصداع دام تسعة أشهر دون أن يرحم روحي العليلة. ها أنا الآن قد نسيت الصداع، وحتى لو عاد زائرًا ثقيلًا، فلن آبه بوجوده، وسيولي خارجًا. أخطو على الأسفلت بثقة الآن، إذ أنني قبل ذلك كنتُ أشعر وكأن دروبي موحلة، وعلي أن أغوص في طينها مترنحًا فاقدًا للتوازن. لكنهُ لا ينقطع، حبلُ الأفكار الثخين، والمُثخن بذكريات ترسبت كالكلس عبر الزمن حتى تصلبت وشكلت صخورًا تضربُ أوتادها في سحيق الأعماق.

الآن وبعد أن صممتَ ألبومًا من صور الأشعة، وبعد أن ضاعت منك أوقات ثمينة، جعل منها الألم بلا أية قيمة، الآن لماذا لا تقطع حبل الأفكار هذا وتتخلص منها إلى الأبد

وقد أكون أنا من يأبى أن يفتت هذه الصخور التي أشعر بأنها صقلتني، علمتني الكثير، هذبت نفسي، نعم للآلام قُدرة عجيبة على فعل ذلك، عندما تهوي سياطها على ظهرك، وتتغلغلُ دبابيسها في لحمك، وحين تصرخُ حتى تتقطعُ حبالك الصوتية ولا يسمعك أحد، تقول لك الآلام: تَجَّلَدْ! كن صبورًا، كي تواجه الحياة ..يأخذني حبلُ الأفكار إلى القريب من الذكريات، وهي الأكثر إيلامًا، لأنها دشنت بداية عصر الرحيل والاغتراب والسفر إلى الأرض الباردة. لم تكن زيارتي للمشفى بقصد إجراء صورة للرأس هي الأولى، فقد تعرفتُ جيدًا على المشافي والعيادات الخاصة والعامة والمخابر ومراكز التصوير بالأشعة .

الأشعة كانت ذلك المستكشف الذي يدخل إلى ثنايا الجسد، لتبعث اليقين في نفسي، لتنبئني بأن ألم البطن الذي لم يغب عني طيلة عام ونيف ما هو إلا وهم، وأن ألم الظهر يولد من رأسك لا من ظهرك، وأن رقبتك التي تطقطقها منذ سنوات طويلة، لا تحتوي على سبب حقيقي لهذه الأصوات التي تشبه تكسير عظام المعذبين تحت حديد الجلادين..

الآن وبعد أن صممتَ ألبومًا من صور الأشعة، وبعد أن ضاعت منك أوقات ثمينة، جعل منها الألم بلا أية قيمة، الآن لماذا لا تقطع حبل الأفكار هذا وتتخلص منها إلى الأبد، ستقول: إنهُ الألم الذي أدين لهُ بالكثير، نعم، أدين له بكل كتابٍ قرأت، وكل كلمةٍ خطت يدي، أدين له بكل انفراجه شعرتُ بها بعد كل نوبةِ بكاء، أدين لهُ بأنه نحتني على نحوٍ أبدو فيه قويًا وصلبًا كتمثال النبي موسى لمايكل أنجلو. أدين لهُ بأنني ولدتُ من جديد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.