شعار قسم مدونات

بات الأمل رفيقنا

blogs الأمل

منذُ كُنت صغيرة وأنا لا أفكر في خسارة شيء، كل الأشياء بالنسبة لي هي المكسب، فيحدث أن نتناقش من أجل خطة أسبوعية أو مشروع برىء من مشاريع الطفولة الصغيرة وعندما يسألُني أحدهم: وما هي خططك البديلة عند ضياع كل هذا أو خراب حدوثه؟ كنت أنظر إليه بشيء من التعجب والاستنكار! لماذا نتخيل الخسارة قبل بدء القصة نفسها! لماذا نصنع بأيدينا هذه النهاية المأساوية ونضعها نصب أعيننا؟! كنت أعتقد أنه من يضع الشيء أمام عينه ربما يتوه فيه وسط زحام المرور، يضع احتمالات الفشل والخطط البديلة الأقل كفاءة ونجاحا، ويطمئن قلبه أن هناك بديل آخر، فلا يصل لحلمه الأساسي ولا يعبر طرقه المُتفرعة.

 

كنت أحب ترتيب الأشياء وصياغتها، فكان كل شيء يسير بتنظيم، "سأفعل هذا الشيء لأصل إلى هذه النقطة وبعدها سأنتقل إلى هذه المرحلة وبعدها تُتيحُ لي الإنتقال إلى مراحل شتى " هكذا كنت أفكر بعقلي طوال الوقت، بهذا الشكل كنت أرسم مستقبلي، حياتي، حتى المكان الذي سأعيش فيه.. هكذا كنت ارسم داخل مذكرة كتاباتي الملهمةِ لي وكأنك تلعب لعبة إلكترونية تضمن بها كسب الذهبِ بسهولة! إعتقدت أن الحياة ستسير بهذا اليُسر، أعتقدت أن تلك الرسومات ستُرسم لي في طريق مستقبلي وسأتبعها، لكن كيف الأسير يسيرُ بيُسر؟!

 

الحياة لا تسير إلا بالطرق المتعرجة.. وعليك أن ترسم طرقاً فرعية داخل مذكرة كتاباتك وأنت تتخيل طريقك الأساسي، طرق تلجأ إليها في حالة حدوث كارثة

ربما لا ترى هذه الأشياء بالشكل اليسير لكني كنتُ أرى نقيض ذلك، وكأنها خلقت لي.. ربما يكون شيء من التمرد على نفسي لكني كنت أثق بقدراتي أكثر من أي شيء آخر، كنت أثق بترتيبي وثقتي في الوصول، كنت أمضي وراء أملي الذي لا حدود له، ونسيت أن هُناك شيء يُسمى القدر، فعندما يأتي تتراجع كل الخطط والرسومات أمام قراراته.. نسيت أن التمرد أحيانا يجلب لك العبثية في كل شيء، يخدع قوتك ثم يتركك تصارع ضربات الكون بمفردك دون أن يُهيء لك الأسلحة.. دون أن يجلب لك سفينة نوح التي تعبر بك بحر أحلامك الذي رسمت.

 

اعتقدت أن الحُلم طالما راودك ستستيقظ على تحقيقه.. لن يُهدم، ولن تُتيح الفرصة لأحدهم بأن يسلبه منك رُغما عنك ورُغما عن خططك البريئة.. وأن الحياةَ سترسم لك طريقَ الورد بألوانه التي تريد وأشكاله التي تحب، لم أكن أدري أن الحياة ستختار طريقي لتضع به قراراتها المعارضة لي، وأنها لا تجيد لغة التحدث مع رسوماتي الصغيرة فهي تختار ما أريده لتُهئ له طريقا آخر يصعب عليَّ الوصول إليه أو ربما لا أمتلك الوجهة إليه من الأساس.

 

اليوم أتذكر كل هذا وأبتسم، كلاجيء في بلادٍ غريبة لا يتذكر حتى كيف أصبح إليها من كثرة متاعب الوصول، يرى حُلمه وأمله بات منسياً، يبتسم إبتسامة الوجع على ما مضى وعلى ما خسره أو دعنا نقول لم يكسبه بعد. فاليوم أنظر لأرى طريقا آخر أسير به، فليست هذه النقطة التي أود الوصول إليها ولا هذه هي المرحلة التي كنت أرغبها.. حتى أن تلك الأمنية التي طالما أردتها أصبحت لم تكن لي منذ البداية، وكأن رسوماتي كانت تسير في طريقٍ من السرابِ تراه وحده ولا ترى غيره! فأدركت هنا يا صديقي كيف يكون للخسارة معنى.. عرفت كيف تسقط في معركة كنت تتكيء على نتيجة مرجوةٌ منها وكأنها أعظم معارك التاريخ، فهي بالفعل عظيمة داخلك، عرفت جيداً كيف يفر منك طريق، حلم راودك لسنين، لأعوام، راود قلبك وتركك وحيداً تعدد الخيبات، تتعصر ألما على ما مضى وعلى أبواب أُغلقت أمام وجهك وتركتك أسير نفسك لا تدري ماذا تفعل، تركتك أسير التفكير الموحش ترى تتابع العثرات وأنت مازلت عاجزاً عن صدّها.. لذلك بدت أعرف الخسارة جيداً.

 

بعدها أدركت يا صديقي أن الحياة لا تسير إلا هكذا، لا تسير إلا بالطرق المتعرجة.. وعليك أن ترسم طرقاً فرعية داخل مذكرة كتاباتك وأنت تتخيل طريقك الأساسي، طرق  تلجأ إليها في حالة حدوث كارثة، عليك إدراك أن هناك وجودٌ لًلخسارة كما هو المكسب، وأن الحياة لم تُخلق إلا هكذا وأن ما كنّا نعرفه عنها في الماضي هو الجهل، فليس هناك المصباح السحري الذي يأتيك بالأحلام كما تٌحب وليس هناك سجادة حمراء وأضواء كثيرة تُمهد لك الطريق.. بل ليس هناك طريقا من الأساس وعليك أن تحفره بيدك.

 

المعركة الحقيقية ما زالت تنتظرك، لذا عرفت أن المعركة الحقيقية تكمن داخلنا.. معركة التغلب على اليأس والضعف، معركة الاعتراف بوجود الخسارة والتمكن من إبادتها، إدراك أن كل شيء مُقَدَّر وأن الحياة لم تكن لتقويك سوى هكذا

عليك تقبُّل فكرة أن المحاولات الكثيرة هي رفيقة الطريق، وأن الخطط البديلة ضرورية  فربما تكون هي أنسيك الوحيد وأنت تواجه تعثّر الخطوات.. أما عن تلك المعارك الكثيرة التي إنتصر بها القدر علينا فهي لم تكُن لنا منذ البداية، لم تُكتب لنا ولم يوفقنا الله فيها.. شددنا رحالِنا ونحن نتمنى إنتصار مُيسَّر بها ونسينا إحتمالية سيرنا في المعركة الخاطئة، معركة ليست ضدك منذ البداية ولم يكن لها عداوة معك، علينا يا صديقي تقبّل أن الخسارة هي عين النجاح.. فلولا وجودها لما استعدنا حطامنا لنرمم هيكل جديد، هيكل لروحنا قبل أن يكون هيكل نجاحنا..

 

الشيءُ الوحيدُ الذي بقى معي لنهاية المطاف هو ذاك الأمل، لولا وجوده لظلت مذكرتي مغلقة منذ أعوام أرفض رسمها من جديد، أخشى محاولة القرب منها ومجادلة أوراقي مرة أخرى، عرفت أن الأمل هو الصديق الخفي الذي يُرتب بعثرة العالم من حولك فتنظر لترى الطريق مُرتب من جديد والسماء صافية بزرقتها والأضواء تنتظرك لترسم وتلون.. يرشدك لتعبر كل أزمة ويتربص خطواتك، يسندك كلما استعصى عليك أمر السير.

 

اليوم أردت ملء روحي بهذه الكلمات قبل أن تصل إليكم، أجدد نسمات الأمل داخلي لأمضي من جديد طريقا آخر، متجاهلة ما مضى.. لا أدري كيف سيمضي الوقت الآتي لكنني أثق كثيرا بذاك الأمل داخلي.. أتذكر دائما ما يقوله " باولو كويلو": " عندما تواجهنا أي خسارة، لا جدوة من استعادة ما كان، ومن الأفضل أن نستفيد من الحيز الأوسع الذي يشرع أمامنا ونملأه بشيء جديد..".

 

علينا أن نعي أن كل شيء مضى انتهى.. انتهى وحسب وهذا كل ما في الأمر، وأن المعركة الحقيقية ما زالت تنتظرك، لذا عرفت أن المعركة الحقيقية تكمن داخلنا.. معركة التغلب على اليأس والضعف، معركة الاعتراف بوجود الخسارة والتمكن من إبادتها، إدراك أن كل شيء مُقَدَّر وأن الحياة لم تكن لتقويك سوى هكذا.

 

لنستيقظ على نسمات حلم جديد وصوت فيروز في الخلفية وهي تنغّم " في أمل.. إيه في أمل ".

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.