شعار قسم مدونات

ضريبة الارتباط بِثَوْرِي

مدونات - راجعين يا هوى

لم يكن العشاق في زمن الثورة استثناءً دون غيرهم من حيث الألم والمعاناة، ووقع الفاجعة بل إن معاناتهم تعتبر أكبر من غيرهم في زمن الثورة، ما إذا استثنينا الأمهات، فمنهم من فقد حبيبه أو زوجه، أو اختفى في غياهب زنزانات الظلم حيث ألم المعاناة أكبر وأشد .كتبت قبل ذلك أن عدد معتقلينا يتجاوز الآلاف، وها أنا ذا أعود لأسأل ماذا وإن تقدم أحد هؤلاء الآلاف لخطبتك؟!

حذروني مرارا وتكرارا وقالوا لي لا تعشقي ثورياً، معتقلاً كان أو صحفياً، ولا حتى كاتباً فإنه قد يموت في أي لحظة، فرصاص بلادنا الظالمة كثير وطائش والسجن لديه مثل زيارة قريب، عادية جدا ومكررة.

كل ما في الأمر أنه لم يتكلف لكي يلفت انتباهي، بل رأيته في أقصى حالات انطفائه ورأيت في عينيه بريقاً غريباً خطاف لم أره من قبل جذبني نحوه كأنى في نفق معتم في آخره سراج، كان الموقف أدعى أن أسأله عما مر به فقال لي: دعكِ من السياسة، وهيا لنبتعد عن ذاك الوادي، فرائحة النفاق والتدجيل لا زالت تنبعث منه، لنبتعد عنه حتى ينقطع أخر صدى، حتى لا نسمع همسه واحده من صيحات الشباب الثائرين ولا خطابات الزعماء الزائفين ومقالات الصحفيين الدجالين ولا أصحاب العمم المنافقين. فإني قد سئمت سماع هذه الكلمات المكررة المعادة.. "الشعب يريد"، "الرأي العام"، "حقوق الإنسان"، "الوطنية". فكل هذه الكلمات المتباينة تحمل عندي معنى واحد. وفي حضرةِ هذه التقلُّبات وكثرة السقطات وتتابُعِ الأسماء التي تقول ما لا يُرضي الضمير ولا يخدم الأمة، لم يعد يعنيني أمر أحد ولا أتطلع لمعرفة أي شيء.

مؤلم جدا أن تتيقن بالدليل والبرهان أن هذه الدولة تكرهك وتمقتك كإنسان وتفعل ما بوسعها لتجعلك أنت أيضاً تكرهها وتحقد عليها. مؤلم للغاية أن تضطر بعد هذا كله أن تتظاهر بأنك تحبها وتعتز بحكامها رغماً عن أنفك.

قرأت مؤخراً أن أحد المعتقلين كتب على أحد صفحات الفيسبوك: روح في السماء وجسد ينتظر التراب.. وقرأت حبيبته تكتب له بعد عامين من الاعتقال: وداعاً حبيبي الغالي، وداعاً يا خير أب وأخ وزوج وصديق.. أراك هناك حيث لن يمسك بنا سجان، حيث لن يكتبوا بنا تقاريراً لأننا نحب الوطن. تخمينك صحيح، نعم. قتلوه وبقيت هي وحيده!

دار حوارى المعتاد مع نفسى حسمته في النهاية بكل حزم.. أن علي الذهاب مرة مع زوجة معتقل أو حتى خطيبته أثناء زيارتها له لمعرفة إن كان قلبي الهش، الضائع قادر على تحمل هذه المسؤولية وما سيخلفها من تبعات وتقبل هذه الأمور فيما بعد أم أن صلابتي وعزيمتي تلك سوف تنهار مباشرة بعد رؤيتي لمدى الظلم النازي المبيد هناك.

وبالفعل ذهبت مع صديقتي التي لطالما حدثتني عن نيتها إقامة عرسها في المعتقل، تلك التي قررت بعد انتظار سنة، عقد قرانها داخل أسوار معتقلات الاستبداد مفضلة أن تبقى مرتبطة بحبيبها حتى وإن كان معتقلاً لا تدري متى سيفرج عنه، وختمت حديثها قائله "حتى لو بقي طوال حياته داخل الزنزانة يشرفني الارتباط به، فالحب لا يعرف مكاناً ولا زمانا وهو أبقى من كل هذا الظلم".

مؤلم جدا ذاك الشعور الذى ينتاب شاباً لا حول له ولا قوة في دولة كاذبة، لئيمة، منافقة. تهضم حقوق شبابها وتستضعفهم ومن ثم بعد ذلك تعود لتستحقرهم وتمارس عليهم كل أنواع الظلم والخطف والتخويف، مؤلم جداً أن تكون محباً لهذا الوطن بكل جوارحك ثم يأتي "صعلوك مغفل" يسيرها بدون وجه حق ويحكمها بقانون الغاب ويتهمك بالخيانة والتأمر والانفصال، لا لشيء سوى أنك طالبت أن تعيش بحريه وكرامه، ولكن يبدو أن هذين المصطلحين دخيلين عليهم. مؤلم جدا أن تتيقن بالدليل والبرهان أن هذه الدولة تكرهك وتمقتك كإنسان وتفعل ما بوسعها لتجعلك أنت أيضاً تكرهها وتحقد عليها. مؤلم للغاية أن تضطر بعد هذا كله أن تتظاهر بأنك تحبها وتعتز بحكامها رغماً عن أنفك كي تستطيع النجاة فيها.

كنت أعود لأقرأ منشتات إعلامية فأجد كلام غريباً يتمحور جميعه حول نقطة واحدة فقط.. وهي أن الثورة أظهرت ازدياداً في توطد العلاقات بين الحبيب وحبيبه، حيث أصبح الآخر أكثر حرصاً على شريكه خوفاً من فقدانه برصاصة قناص غادر أو بقصف عشوائي أو بمعتقل يعذب فيه حتى الموت، وأن هؤلاء العشاق سيتوجوا حبهم مع انتصار الثورة.

وجدت قبلات وعناق على أبواب المعتقلات أصدق بكثير من قبلات التهاني والمطارات وهناك وجدت صلوات أمام مستشفيات السجون أصدق من صلوات العديد من المساجد.

وكذلك منشورات عدد لا بأس به من الفتيات على مواقع التواصل يتناولن الموضوع من جانبه الرومانسي الخالص حيث هذا الارتباط يكسبك التميز عن الأخريات، بالإضافة إلى الشهرة التي ستحظين بها حين ينادون عليكِ أثناء الزيارة بـ "خطيبة فلان" وأن هذا سيجعلكم تعيشون قصتكم الأسطورية بين رسائل ورقية دون غيرها بعيداً عن مكالمات صوتية أو محادثات نصية مملة. لكن أظنهم غضوا الطرف عن كثير مما وجدته هناك عن حدة الفراق ووجعه، نظام قمعي لم يسمح حتى للحبيب أن يلقى حبيبه ولم يترك للمحبين سوى ذكريات من ألم ودم.

من رحم وجع العشاق ولدت هذه المسؤوليات الثقال، لتحملها تلك الأنثى الأبية الرقيقة المثابرة، تلك التي تمتلئ بالأمل، والألم الذي يعتصر داخلها فيزول بأكمله حين ترى رفيق الروح، آخذة معها تعب الرحلة الطويلة. وجدت قبلات وعناق على أبواب المعتقلات أصدق بكثير من قبلات التهاني والمطارات وهناك وجدت صلوات أمام مستشفيات السجون أصدق من صلوات العديد من المساجد. هن نساء قدًر الله لهن أن يعشن ظروفاً أقوى من قدرة تحملهن ويتمنين كلما تحين لحظة الشوق والاحتياج أن يتخلصن من عبء يثقل صدروهن، ومن حرمان يعيش داخلهن وفي عيون أطفالهن.. هن زوجات المعتقلين وخطيباتهم اللاتي مازلن متمسكات وثابتات أمام كل ما يتعرضن له من مشاكل تزيد من معانتهن، في ظل مجتمع يفرض نفسه بكل عربدة وجهل .

أظنهم غفلوا عن ضريبه قاصمه تدفعها تلك النساء مقابل القليل من اللقاء وحتى وإن أدركوا هذا، فلا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها، يقول أحدهم أن "الحب ثورة"، وفي زمن الثورة صار ثورات ٌوثوراتُ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.