شعار قسم مدونات

جدران وأسوار

مدونات - جدار فلسطين
لم أستشعر خطورة الجدار بمعناه الرمزي والمعنوي إلا وأنا أستمع، في مراهقتي، إلى أغنية الفريق الموسيقي الإنجليزي بينك فلويد الشهيرة "حجرا آخر في الجدار" من الألبوم الأكثر شهرة في نهاية السبعينات حيث صدر عام 1979 بعنوان "الجدار". كانت أغنية مفضلة لي لأنها ترصد لحظة التمرد على تحويل الطلاب إلى مجرد بلوكات حجرية تضاف إلى الجدار العملاق الذي تتبناه المؤسسة التعليمية الرافضة للتمايز والحرية والإبداع.

قمة البلاغة المتمردة على أفكار القولبة والنمذجة وحصار العقول في كلمات الأغنية: "لا نحتاج تعليماً..لا نحتاج سيطرة فكرية.. لا نريد سخرية سوداء في الفصول.. أيها المدرس أترك الأطفال.. ففي النهاية أنت مجرد حجراً آخر في الجدار.. لن أكون حجراً آخر في الجدار". معاني ثورية تحمل رفض القولبة والرغبة في التفرد وعدالة الاختلاف.

من هذا المنطلق كان تأملي الدائم للجدار المادي والمعنوي، ثم أصبح الجدار محوراً رئيسياً في فكري عندما ارتبطت بالعمارة والتصميم مهنياً وأكاديمياً. فالجدار هو أحد أهم مفردات المعماري في تشكيله للصياغات المكانية التي يشغلها الإنسان أو الجماعة الإنسانية حيث يمارسون خلالها أنشطتهم المختلفة. الجدار في العمارة يحتضن داخله فضاء مكاني انساني، وطبيعة تشكيل الجدار ومواد بنائه تساهم في الإدراك الإنساني والشعور الحسي بهذا الفضاء.

في حالة الثورة المصرية تحولت الجدران وخاصة جدران المباني المحيطة بميدان التحرير إلى أداة لنشر الوعي السياسي والثوري تمهيدا لحقبة جديدة في تاريخ مصر.

القصة التاريخية للجدار شديدة الثراء، ففي العمارة الفرعونية كان الجدار سواء خارجيا مثل جدران المعابد الجنائزية أو داخليا مثل جدران المقابر في صعيد مصر، جداراً معرفياً وسجلاً ثرياً لوقائع واحتفالات وغزوات وطقوس. كان الجدار هو كتاب الحضارة المفتوح الذي تركه الفراعنة للعالم من بعدهم. هذا النسق الثقافي الموروث، استمر مع الفتح الإسلامي لمصر، ونظرا لحجم المشقة التي كان يلاقيها الحجاج في انتقالهم إلى مكة في رحلة تستغرق شهوراً، كان المصريون يخلدون تلك الرحلة على جدران منازلهم لتذكرهم ومن حولهم بقدسية وروحانية الفريضة.

استمر فن التعبير الشعبي عن الرحلة المقدسة حتى الوقت المعاصر في بلاد النوبة وريف وصعيد مصر. حيث مازال الجدار الخارجي للمنزل يقدم شاهدا على الحالة النفسية والروحانية بل والاجتماعية وتتجدد معالجة هذا الجدار مع ديناميكية النسق الاجتماعي. فمع عودة الحجاج تنتشر رسوم "الكعبة" بيت الله الحرام، وحولها الطائرات والبواخر وعبارات الشكر والدعوات "حج مبرور وذنب مغفور". تتحول جدران البيوت إلى جداريات تتسم بالحيوية وتؤسس لظاهرة يتسم بها الريف المصري. ويتولى رسم هذه المناظر الجميلة فنانون شعبيون بطريقة فطرية. ثم تتغير شخصية الجدار الخارجي للبيت الشعبي في صعيد مصر استعدادا لاستقبال شهر رمضان المعظم، ويستمر التجدد مع مناسبات أخرى كالمولود الجديد أو الزواج حتى يمكن تشبيه الحائط بالشاشة التي تتغير مشاهدها بصورة موسمية.

undefined

تكون الجدران المعمارية والعمرانية أحيانا باردة قاسية تمزق الشعوب وتدمي القلوب، خاصة عندما تتحول إلى أسوار. وأشهر هذا التصنيف جدار برلين الذي بني عام 1961 وبقى رمزاً للقهر والظلام حتى ثورة 1989 التي بدأت في مدينة ليبزج الألمانية وامتدت لكل مدن ألمانيا وانتهت بسقوط جدار برلين، وعجز الشرطة الألمانية الشرقية عن إيقاف سيل المواطنين المندفعين إلى الشطر الغربي لمدينة برلين تنفساً للحرية واقتراباً من أقارب وأصدقاء فرقتهم الأحجار العالية والأسلاك الشائكة التي مزقت أجساد بعض ممن تجرأ بمحاولة العبور.

الدراما مماثلة ولكنها أكثر قسوة ووحشية ولا إنسانية في حالة جدار الضفة الغربية والأراضي المحتلة حيث يمزق الجدار الخرساني الرمادي البارد شعب كامل ويمنعه من الوصول إلى المدرسة والطبيب والجامعة، وأحيانا رغيف الخبز. المدهش أن فكرة الحصار بالجدران مازالت رائجة ولم يتعلم حراس السجون الكبرى، التي تخلقها الجدران، من تجربة برلين. فما تزال إسرائيل تحاصر نفسها أكثر من حصارها للآخرين بمشروعها لبناء جدار على الحدود اللبنانية ومشروعها الآخر مع مبارك المخلوع لعزل الشعب الفلسطيني من جهة شبه جزيرة سيناء بجدران من الفولاذ.

أخطر ما يواجه المبدع هو أن يخلق جدرانه الذاتية التي تحكم أفكاره، وتحصر إبداعاته. هذه الظاهرة التي أسميها "بناء الجدران الذاتية: جدران العقل والروح".

أما جدار السفارة الإسرائيلية في القاهرة الذي بنته الحكومة المصرية بعد ثورة 25 يناير، فحياته كانت قصيرة لم تستمر سوي أيام معدودة استخدم في بداياتها كمجال للجرافيتي الرافض ثم انتهت حياته بانتفاضة من الثوار هدموا فيها الجدار الخرساني بأيديهم العارية. فالجدار المعماري الخارجي طالما استخدم في أوقات الثورات الشعبية للتعبير عن نبض الشعوب ونشر رسائل علنية حرة لا تخضع لرقابة وسائل الإعلام.

في حالة الثورة المصرية تحولت الجدران وخاصة جدران المباني المحيطة بميدان التحرير إلى أداة لنشر الوعي السياسي والثوري تمهيدا لحقبة جديدة في تاريخ مصر. لتخرج لنا في النهاية ما انتجته الثورة من قوالب تصويرية شديد الخصوصية. جعلتنا أمام صورة درامية حية تُجسد لنا حالة فريدة لفنانين فطريين وطنيين مولعين بانغام وروائح وأصوات الحرية التي صدحت عاليا في الميدان.

عمارة اللاجدار: ديمقراطية العمارة
الشفافية والاختراق البصري قيمة من القيم التشكيلية والرمزية التي تحققها الجدران المعمارية. تأمل عبقرية المعماري الشهير الأمريكي الصيني الأصل إي أم بي في خلق الهرم الشفاف البديع أمام الواجهات التاريخية العريقة لمتحف اللوفر ليضمن استمرارية بصرية وشفافية مطلقة بين المتحف القديم والجناح الجديد دون خلل في الاتساق المعماري والعمراني للتكوين الأصلي.

كما يقدم الجدار الشفاف في المسجد والمركز الإسلامي بمدينة بينزبيرج بمقاطعة بافاريا الألمانية مثال متميز على مفهوم القيمة الرمزية لشفافية البصرية. حيث ينفتح المسجد على المجتمع المحيط ويسمح بتواصل بصري يرى فيه المتحرك بجوار المبنى رقي العبادات الإسلامية وتحضر المسلمين. يستوقفنا أيضا مبنى البرلمان الألماني الذي افتتح عام 1999 للمعماري العالمي نورمان فوستر الذي صمم قبة زجاجية عملاقة محاطة بمنحدرات يصعد إليها عامة الشعب وعندما يصلوا إلى القمة ينظرن إلى القاعة الرئيسية بمن فيها من رؤساء ونواب طارحا رسالة رمزية بليغة مفادها أن السلطة بيد الشعب وهو الأقوى والأعلى والمراقب، قمة الديموقراطية عندما تسقط الجدران.

التحدي الحقيقي هو تنبه المعماري والعمراني إلى مهمته الأولى وهي صياغة حواراً بين الإنسان والمكان أو بالأحرى صياغة نطاقات حياتية ديناميكية مفعمة بالطاقة والتحولات.

المعماري المبدع والجدار الذاتي
أخطر ما يواجه المبدع هو أن يخلق جدرانه الذاتية التي تحكم أفكاره، وتحصر إبداعاته. هذه الظاهرة التي أسميها "بناء الجدران الذاتية: جدران العقل والروح"، والتي انتشرت بين المعماريين والعمرانيين العرب فانقسموا إلى تصنيفين متمايزين: الأول يبني حول عقله جدارا يحاصر داخله أفكاراً تراثية قديمة ويستبسل لمنع التدفقات والنبضات الإبداعية الغربية من الاقتراب. الثاني استخدم الجدار العقلي لتحقيق العكس فحجب العمق التاريخي تماما وأسقطه من منظومة إنتاج المكان، وتوجه إلى الانفتاح في الجدار ببوابات عملاقة على المشروع الغربي محتضنا باستسلام كل ما يطرح خلال هذا المشروع دون مواجهة نقدية أو تفسيرية.

والواقع أن كلا الجدارين أو التوجهين متحيزين فاصلين عنصريين. فالمبدع يتمتع ويلهم بالرفض والتمرد وهدم كل الجدران. بل إن البعض يفسر عبقرية العملية الإبداعية في القدرة على هدم الجدران لبناء فضاءات أرحب للتأمل والتفكر والمساهمة المبدعة.

هدم وتفكيك وبناء الجدار
التحدي الحقيقي هو تنبه المعماري والعمراني إلى مهمته الأولى وهي صياغة حواراً بين الإنسان والمكان أو بالأحرى صياغة نطاقات حياتية ديناميكية مفعمة بالطاقة والتحولات. هذا الفهم يسقط الحصار الفكري والعقلي، ويهدم كل الجدران المعنوية والمادية أحياناً ويتبنى مدخلاً لاستمرارية تعريف وإعادة تعريف الجدار أو الغلاف المعماري. كما يعطي مشروعية كاملة لهدم جدران العقول وإعادة تفكيك عقول الجدران والأسوار وكل الحواجز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.