شعار قسم مدونات

الإعجاز العلمي التأثيري (2)

blogs - قرآن

إن المتحدثين في الإعجاز العلمي يدورون في الحلقة الضيّقة ذاتها، فتراهم يتناولون الآيات نفسها، والاستدلالات نفسها، بالطريقة نفسها، لذلك بهتَ لمعان جوهرة القرآن الكريم في أعين القرّاء والدارسين ؛ لهذا فإنّنا سنحاول اقتطاف أطياف جديدة من الإعجاز بأسلوب نزعم أنه جديد.

كلام الباري لا يشبه كلام البشر:
أولاً من حيث الشكل: اعتاد العرب -وهم أهل الفصاحة والبيان- أن يصنّفوا أدبهم بين نثر يتضمن الخطابة وسجع الكهّان والرسائل وغيرها، وبين شعر موزون مقفّى وأراجيز وغيرها.. لكنّ القرآن أتاهم بأسلوب لم يألفوه ولم يعرفوه، فلا هو ملتزم ببحور أشعارهم ولا بطريقة ناثريهم وخطبائهم، ومع ذلك فقد استطاع أن يستلب قلوبهم، وأن يأسر أذواقهم ببيانه وسحره فدخل العرب في دين الله أفواجاً بالقرآن ولا شيء غير القرآن وحسبنا بذلك القصة الشهيرة التي يتداولها المصنّفون في أسباب النزول:

وهي أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه، فإنك أتيت محمداً لتتعرض لما قِبَله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، فقال: وماذا أقول؟ فوالله، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا أعلم برَجَزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطِلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمُغْدِق، وإنه يعلو وما يُعْلَى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه، فقال: "هذا سحر يؤثر" يأثره عن غيره، فنزلت: "ذرني ومن خلقت وحيدا".


عرب الجاهلية قد عرفوا شعر الفروسية وما فيه من قيم أخلاقيّة نبيلة، وكذلك عرفوا شعر الخمرة والغزل العفيف وغير العفيف، ولكنّك لو تصفّحت آيات الكتاب العزيز لوجدت فيها ما لا تجده في آداب العالم أجمع من قيم نبيلة نادرة.

ثانياً من حيث المضمون: كثيراً ما نقرأ في كتب الأدب أنهم يقولون "إن هذا المعنى عبّر عنه الشاعر فلان ببيت كذا وكذا والشاعر فلان بكذا وكذا" أمّا القرآن الكريم فقد تناول موضوعات مختلفة تماماً عمّا كان يتداوله شعراء العرب وخطباؤهم، فمن المعلوم أن الأدب كان حينذاك مديحاً وهجاء ورثاءً وفروسية وتغزّلاً إلى غير ذلك من الأغراض الشعرية المعروفة عند العرب، لكن يا ترى هل تجد من فصحاء العرب من تعرّض لخلق السماوات وما فيها من أجرام ونجوم، وإلى الأرض وما فيها من جبال راسيات وحدائق ذات بهجة ونخل طلعها هضيم، وزرع وزيتون مختلف ألوانه يسقى من ماء واحد؟ "والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ.لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِو كلّ في فلك يسبحون".

أصالة المضمون: إن عرب الجاهلية قد عرفوا شعر الفروسية وما فيه من قيم أخلاقيّة نبيلة، وكذلك عرفوا شعر الخمرة والغزل العفيف وغير العفيف، ولكنّك لو تصفّحت آيات الكتاب العزيز لوجدت فيها ما لا تجده في آداب العالم أجمع من قيم نبيلة نادرة، وهل أنبل من أن تقابل الإساءة بالإحسان: "ولا تستوي الحسنة ولا السيّئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم"، وتراه في موطن آخر يحذّر من دقائق أمراض النفوس، فيأمرك أن تصف حتى أعداءك، وهذا أمر دقيق يفهمه خاصة الخاصة من أرباب الذوق والأدب والعلم:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ" أي لا يحملك بغضك لأحد أن تحمّله من الذنوب ما لم يقترف.

ثم إنه يعلمك الاعتدال في كلّ شيء ولا سيما في الإنفاق: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا"، ثم إنه يذكرك بوالديك، ولعلّك لا تجد في الأديان الأخرى كدين الإسلام يشدّد على برّ الوالدين "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارحمها كما ربياني صغيراً".

وإنّك لو أردت استعراض قيم القرآن الكريم لطال بك الحديث، ولجفّت الأقلام، ولكن اللافت هنا أن القرآن الكريم قد كسا هذه القيم النيلة غلالة أدبيّة ساحرة لا تبلى ولا تفنى ولا تبيد.

ختاماً: إن القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي معجزاته وإنّنا ماضون في هذه السلسة إن شاء الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.