شعار قسم مدونات

بين فلاسفة الكتب وفلاسفة الحياة

blogs - old man
استقبلت أرض اليونان القديمة أول بذور الفلسفة، مع مزارعيها الأوائل من طاليس، أنكسمنس، هيراقليطس، وكما يصف فيتاغورس الفيلسوف بالمحب للحكمة والباحث عن المعرفة، بدأت الأسئلة الفلسفية تخترق العقول ومن ثمة بدأت رحلة البحث عن المعرفة والتفاسير المختلفة الأكثر عقلانية والأقرب إلى الحقيقة، بمتاع يتلخص في العقل، الحكمة والمنطق.
رحلة تضمنت مجموعة من المحطات بنزعاتها، الاجتماعية، السياسية، الشخصية. والغيرية.. في مختلف بقاع العالم. فمن كيان لآخر تتغير النظرة فيتغير المعطى، تتغير المنهجية، يتغير المعنى وبذلك يتغير الجواب على اعتباره ثمرة صراعات فكرية، مضاربات ومفارقات عظيمة قد تفرضها الطبيعة أو قوانين الوجود مما يبعد عنها سهولة الاختيار وترجيح واحدة عن الأخرى، لكن هنا تظهر حنكة المتاع ومدى استخدامه في الاتجاه وعلى النهج الأصح. الأمر سيان مع النزعة الإنسانية، التي ظهرت لأول مرة بدولة المعمار الكلاسيكي الروماني واللوحات الدافئة في إيطاليا. 

فلاسفة الحياة هم أشخاص فهموا عنوان الحياة، فراحوا يعيشون ما بين سطورها، راجين حسن خاتمتها. يمتنون لأبسط الأشياء، لهم في الخيال حياة، يقتاتون منه ويعوض كل خيبة قد تصادفهم.

بدأ الاهتمام بالإنسان وكل المفاهيم المؤطرة لإنسانيته بدءا بالأخلاق، كما يصف سقراط التربية الخلقية على كونها الأهم والأقرب للإنسان من ثوبه أو خبزه حتى! ثم الحب؛ حيث اختلفت العقول والأقلام فهناك من صنفه أعمى من أفلاطون وشكسبير، أما جبران خليل جبران فقد اكتفى بتلخيصه في دمعة وابتسامة كذا هو الأمر بالنسبة للحرية، العدالة، الصداقة..

نجحوا في توثيق وتعزيز مفهوم الإنسانية. كذلك الإلمام بما قد يحتاجه الإنسان كآنا له خاصياته وسط الغير للعيش بأناة، يحترم قواعد الوجود باحترام قواعد إنسانيته أو بالأحرى نفسه. جميعها مناهج وحيثيات حفظت أحسن حفظ في المكتبات، كأعظم إرث قد يقدم للعقول. فلاسفة الكتب قدموا أطروحات نورت العقول وغيرت مجاري الأفكار السلفية العابثة المظلمة، لكن ماذا عن فلاسفة الحياة؟

فيلسوف الحياة هو ذاك الشخص المحب للحكمة والباحث عن السلام والخير متى وأينما استطاع إليه سبيلا. هو ذاك الشخص المهذب لأنه يحترم وجود الطرف الآخر ومروءته،  ليس تصنعا أو بروتكول، وإنما كواجب تفرضه عليه طبيعته ككائن عاقل، كإنسان، واجب تقبله بصدر رحب، وقد يدافع عنه إذا ما شهد انتهاكه. هو الذي يسعى للخير ويقبل فعله بلا تردد، فما إن يقبل على تقديم المساعدة للآخرين حتى تبدأ فراشات السعادة والبهجة ترفرف على جدار قلبه دون أدنى ذرة أذى أو من.

هو شخص سلوكه ناطق بالحكمة، مائل للصواب في أغلب حالاته ليس عبثا ولا مثالية، وإنما لحسن استحضار الله، إنه الداعي إلى الله في صمت (بأخلاقه) كما حدثنا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بكل بساطة هو الذي يرجو ويرغب ويساهم في الخير للغير كما نفسه.

إن لم يفلح العصر الحديث في إبراز مزيد من الفلاسفة وبذلك مزيد من الأطروحات الجديدة تدخل أسماءهم أعظم الكتب، فدعونا نكن جميعا فلاسفته! بسلكنا النزعة الإنسانية بمسلكياتها التي توجب تطهير القلب.

فلاسفة الحياة هم أشخاص فهموا عنوان الحياة، فراحوا يعيشون ما بين سطورها، راجين حسن خاتمتها. يمتنون لأبسط الأشياء، لهم في الخيال حياة، يقتاتون منه ويعوض كل خيبة قد تصادفهم. صمتهم هو أكبر فوضى وكلامهم يضم أروع العبارات. قد يذهبون لأفخم الفنادق، قد يجلسون في أرقى المقاهي وقد يأكلون أبهظ الأطباق، لكن أبدا لن يشيروا لها على صفحاتهم الخاصة على الفايسبوك أو الأنستغرام وغيرها احتراما لخصوصياتهم ولكل فقير يكافح من أجل رغيف خبز، لكل فقير يعاني في صمت!

فلاسفة الحياة قد يكونون كتابا، مدونين، قراء، أجدادا، شبابا، أشخاصا مرموقين مثقفين أو عاديين. فأن تكون فيلسوف حياتك؛ يكفي أن تعيش السلام مع نفسك فتمنحه تلقائيا لكل المحيطين بك، أن تكتفي عن القول وتهتم بالفعل، أن لا تتردد أبدا في ترك بصمتك الإيجابية على هذا العالم، لتجعل كل من يصادفك يقول: شكرا للقدر!

إن لم يفلح العصر الحديث في إبراز المزيد من الفلاسفة وبذلك المزيد من الأطروحات الجديدة تدخل أسماءهم أعظم الكتب، فدعونا نكن جميعا فلاسفته! بسلكنا النزعة الإنسانية بمسلكياتها التي توجب تطهير القلب، تطوير الروح وتدريب العقل على العلم والمعرفة. مسلكيات تدفع متبنييها بالتمرد على كل استكانة قد تحزن الطبيعة البشرية، كذا اكتشاف كل نواميس الذات وإحكامها وبذلك الابتعاد عن انعراجات الخطايا والاقتراب من ذرى الكمال.

يولد الإنسان ضعيفا، فتبدأ رحلته في استجماع قوته من تجاربه، معارفه، أحبته وأعدائه بسلاح، القرار. خير قائد للرحلة هو من يحس خلالها بالذوات الإنسانية الأخرى ويلمس مختلف معانيها الجميلة. معاني، لا تقدم جاهزة على أطباق بل يستخلصها من حقق تمددا حميدا لكيانه بأفعال تخلد الصالحات الباقيات وتنشر الخير والسلام والحق في كل خط عموديا كان أم أفقيا.

فيلسوف الورق أطروحته كلمات تنير السطور، أما فيلسوف الحياة فأطروحته أفعال تسحر دروب البشرية، سحرا طيبا يجعل الأيادي ترفع للدعاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.