شعار قسم مدونات

دونكيرك.. هوامش غير سينمائية

مدونات - دونكيرك
400 ألف جندي بريطاني، محاصرون على شواطئ المدينة التي لا تفصلها عن لندن سوى تلك المياه الإنجليزية الملغمة بالموت، قاذفات طائرات ستوكا من فوقهم ولهيب الطرابيد الألمانية من الغواصات -التي أطلق عليها لاحقا ذئاب الأطلسي- من تحتهم، الموت يحصرهم ويحصدهم غرقا وحرقا في آن.

هنا في هذه اللوحة القاتمة كان كل المطلوب أن يعبر هؤلاء الجنود المحاصرون المياه الإنجليزية عائدين إلى الوطن، كي يتجهز ما بقي منهم إلى الحرب القادمة، فألمانيا التي اجتاحت فرنسا وعواصم أوروبا ستدق قريبا باب بريطانيا العظمى. ما سينقذهم لم يكن غطاء جوي أو بوارج ضخمة، بل كانت مراكب مدينة وزوارق للصيد والترفيه انطلقت بالمئات إلى دونكيرك كي تحمل هؤلاء الجنود البائسين.
لن تخبرك قصة الفيلم الأخير للمخرج الشهير "كريستوفر نولان" على أكثر من هذه الخيوط، إعلان الفيلم الرسمي يخبرك يحرق لك هذه القصة أيضا بشكل بسيط، الأمر الذي يبدو للوهلة الأولى أنه لا قصة هناك في هذا الفيلم.

لو أن النقد في السينما حكر على دارسيها وأكاديميها فلست بالتأكيد من هؤلاء، ولو أنه أيضا وقف على هواتها والمتيمين بها فلست منهم أيضا، إنما أنا عابر، وهوامشي هنا على فيلم شاهدتُ فيه ما لم أره من قبل في قاعة السينما – تظل هوامشا غير سينمائية.

undefined

أنا لا أعرف تاريخ نولان جيدا كما يعرفه زملائي المولعين بذلك الفن المدهش، نعم شاهدت له "إنترستيلرر"، ومن قبله أعدت مشاهدة "إنسيبشن" ربما خمس مرات، لكن ليس لدى تلك الملكة التي أستطيع أن أصوغ منها تحليلا لخط الرجل السينمائي وأبعاده، بعد أن خرجت من قاعة السينما قرأت أن المشاهد التي صورت في الفيلم كانت حقيقية، الشاطئ هو هو، والطائرات هي هي، والجنود المُطلق عليهم داخل العمل مجاميعا كانوا بنفس هذه الكثرة دون تكرير اصطناعي، ربما هذا فسر بعض الواقعية الطاغية التي لمستني وأنا أشاهد، لكن هذا لم يكن شيئا.

تتراص ثلاثة مسارات بأزمنة مختلفة متجاورة، لكنها منفصلة، لا تؤدي إلى حبكة ما تزيل غموض الخطوط المتوازية، يؤدي ذلك الشعور في نهايته بما يحدث معنا كل يوم.

ما مثل بالنسبة لي شيئا جديدا هو أنه لا قصة هناك، لا قصة بالمعنى السنيمائي الذي طالما أحببته كثيرا وكرهته أكثر، فالبطل الذي يقابل البطلة في سطر ما يقع في الثلث الأول من السيناريو، والعقدة التي تصفها بالتأكيد صفحة ما في نهاية الثلث الثاني من السكريبت، والحل الذي يشكل نهاية الفيلم سواء أكان مفتوحا أو غير مفتوح، كل هذا كان يمثل بالنسبة لي نشوة مؤقتة أتلذذ بها داخل الفيلم، لكن ما إن تنطفئ الشاشة مرة أخرى وتبدأ الحياة حتى أعود فأسترجاها لأكرهها.

لا شيء في الحياة يشبه ذلك، لا رجلا يقابل امرأة فتلتمع عيناها التماعة سحرية تصدح معها موسيقى رومانسية على الفور في المكان، وتهب نسمات رقيقة لتداعب شعراتها المنسدلة فيبسمان في آن. ومهما تطورت الحبكات السينمائية، فإنها أغلبها حتى الآن يضعف عند هذه اللحظة التي لم تعد سوى إدمانا متبادلا بين صناع الأفلام والجمهور يجعل العبقري أحمد خالد توفيق يعبر عنه في يوتيوبيا بقوله: ليتنا أنا وأنت جئنا العالم قبل اختراع التلفزيون والسينما، لنعرف هل هذا حب حقًا أم أننا نتقمص ما نراه؟

لا يوجد فيلم بلا بطل، سواء أكان بطلا تقليديا يقهر الشر ويطير في السماء ويمشي على الماء، أو بطلا مركبا يتنازع فيه الخير والشر ويغلب عليه في النهاية الخير على الأغلب، أو حتى بطلا شريرا يقدم الشر في رؤية جديدة قد تتعاطف معها، أو تكرهها ولكن بدرجة أخف، المهم أن هناك بطل أو عدة أبطال تسير من خلالهم أحداث الفيلم، مهما كانت القصة ضخمة ومعروفة كالحروب والكوارث الطبيعية والأحداث العظمى فإن هناك أبطالا نؤنس بها القصة الكبيرة ونقدمها للناس.

undefined

هنا لا يوجد أبطال، لا تشعر وأنت تشاهد أي وجه يظهر لك على الشاشة أن هذا بطل من أبطال الفيلم، هذا جندي عادى، لا نعرف عنه سوى اسمه وجنسيته، وهذا قائد لا نعرف عنه سوى رتبته، هذا صاحب سفينة مدنية لا نعرف عنه سوى أن ابنه خاص الحرب قبل ذلك، هنا كل الوجوه تعبر أمام الكاميرا كأن لا أحد يمسك بكاميرا ويصور فيلما، كنت أتابع المشاهد بالضبط كمن ينظر من نافذة الحافلة إلى عشرات المارة في الشوارع دون أن يميز وجها منهم، ورغم أن عينيه تتردد بين المارة وبين الراكبين معه الذين سيرى وجوههم بشكل أكثر خلال ساعة هي عمر رحلته إلا أن وجههم أيضا لا تظل عالقة في رأسه أكثر من ساعة بعد أن يصل إلى وجهته.

تتراص ثلاثة مسارات بأزمنة مختلفة متجاورة، لكنها منفصلة، لا تؤدي إلى حبكة ما تزيل غموض الخطوط المتوازية، يؤدي ذلك الشعور في نهايته بما يحدث معنا كل يوم، أناس آخرون يقعون في محيطنا، يتعرضون ربما لنفس ما نتعرض، تتشابك خيوطنا في لحظات وتنحل مرة أخرى دون تصاعد درامي، لا أنت تعرفت على فتاة المترو التي نظرت لك بعين فاتنة لوهلة، ولا قررت أن تغير عملك بسبب القصة الملهمة التي قرأتها على الفيسبوك، كل شيء يشتبك معك في لحظة ثم ينفصل في أمان.

undefined

الحب قد يأتي من أصغر حدث، كما الموت، في الغالب لا يأتي بكل هذه التمهيدات الدرامية الكبيرة، الوصايا التي يقولها الأبطال كثيرا عند الموت ولو في أجسادهم عشر رصاصات توحى بأن كل شخص يموت يمكنه أن ينهي حياته بالجملة الخالدة التي يريدها، عندما حضر الموت هنا لأحد شخصيات الفيلم رغم كل آلات الحرب التي يعج بها المشهد جاء موتا عاديا، أحد الطيارين المصابين بصدمة جراء سقوط طائرته، انتشله مركب مدني في طريقه لدونكيرك، تشاجر الضابط مع طاقم المركب عندما علم أنهم ذاهبون به إلى الجحيم لا إلى الوطن، دفع أحد الشباب على المركب فوقع على كتلة حديدة فانفجر الدم، أصيب بالعمى، ثم مات لاحقا.

عندما كنت في وفد إعلامي بأحد البلاد التي لا يهدأ فيها القصف كنا نزور مشفى في بلدة صغيرة، كانت كل غرفة ندخلها بها حالة تجعل الولدان شيبا، أطرافٌ مبتورة، أجزاء من الجسم خارج الجسم، مآس لا تحتمل، حتى دخلنا إلى غرفة بها طفل رضيع مصاب بخدوش في جميع أنجاء جسمه، وليس معه أحد من أهله. كان حادثا مروعا، العائلة كانت تقود على الطريق، لم تصب السيارة بصاروخ ولا فتح الثوار أو الجيش النظامي عليها النار، فقط انحرفت وانقلبت ومات كل من فيها إلا هذا الطفل الناجي.

عندما قارنت هذا المشهد الذي رأيته بأم عينيي بذلك المشهد الذي كان في الفيلم عرفت أنني لا أشاهد فيلما، أنا داخل صورة كاملة، صورة لا تبدأ بهزيمة ولا تنتهي بنصر، صورة لا يتجسد فيها الحب والكره والخير والشر تجسدا فاضحا، وإنما رماديا كلون الشاطئ والسماء الملبدة دائما فوقه، صورة لا تثير فيك مشاعر استثنائية، فقط تجعلك تعيش لحظة حقيقة لم يقدر لك أن تعشها، فقط لأنك لم تكن من قبل جنديا إنجليزيا محاصرا في دونكيرك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.