شعار قسم مدونات

سلطان الغضب

blogs - متعصب

عندما أخبرتني أختي عن إحدى صديقاتها أن الدواء الذي وصفه لها الطبيب النفسي ضد الاكتئاب جعلها لا تغضب في مواجهة عدد من المنغصات والاستفزازات التي واجهتها، وكانت في الأحوال العادية تنتفض لها غضبا لأيام عدة. أما الآن فقد تمتعت بقدرة مدهشة على السيطرة، دبرت أمورها بهدوء ولم تخسر وقتها وطاقتها في الصراع مع الغضب.

ثم بدأتُ أفكر في سلطان الغضب، فبالرغم مما يبدو عليه من واقعية فاجعة في أعيننا بكل مبرراته الظاهرة والباطنة، فإنه مؤهل دائما للانكماش والتراجع وحتى الانمحاء. إذا كنا أهنأ حالا فالغضب في معظم أحواله هو أسهل وسائلنا للتعبير عن الإحباط والتعاسة.
 

وعندما اشتعلت ثلاث مشاجرات في وقت واحد في طابور بإدارة الأحوال الشخصية وراحت الحوارات الغاضبة تمر عبر الحاجز الزجاجي العريض في تنويعات عجيبة بين الموظفات وجمهور المشتكين الذين وقفت بينهم. تطلعتُ إلى ذلك الوجه من وجوه الغضب يخوضه الناس وكأنه واجب وطني أو حالة من حالات الدفاع عن النفس بما لا يتيح لهم حتى التفريق بين المتسببين في المشكلة وهم غير موجودين.

يتعين على المرء أن يحمي نفسه من الاكتواء الدائم بلهيب الغضب بأن يبتكر أساليبه الخاصة لتقنين الغضب

والمنوط بهم لسوء حظهم البالغ حلها، فسرعان ما لم يعد حل المشكلة هدفا للمشتكي وإنما بلوغ كلمات الإدانة والاتهام الأعنف والألذع يقولها بينما يلتفت حوله ليلتقي استحسان جاره في الطابور، لم يكن غضبا مصوبا للاتجاه الخطأ فقط وإنما كان متصنعا ومهدرا للوقت.

بالنسبة لي كان ما يثير غضبي هم أولئك المشتكين، إضافة إلى ضعف عدالة الموقف، فهؤلاء الموظفين الذين كانوا يؤخذون بجريرة إهمال زملاء لهم لا نراهم ولن يوجه لهم أحد أي لوم؛ فهم مستريحون الآن في مكان ما يمرحون بينما يرتكبون المزيد من الأخطاء.

ومع ذلك لم أجدني غاضبة كما يليق بالموقف، فقد كنت أشرد فيما وراء الحاجز في الغرفة المستطيلة بجدرانها الكالحة في كرنفال المكاتب والطاولات الحديدية والخشبية العتيقة في إبريق الشاي في يد أحدهم، وهو يسأل جارته عن مقدار السكر الذي تريده وفي المرأة التي تلتهم الشطائر بينما تعمل على الحاسوب وتجيب عن دفق الأسئلة

ملابس الموظفات وإيحاءات تعبيرات وجوههن، ثم تصوراتي عن كيف تبدو العلاقة بينهن لأكتشف للمرة الألف أن نعمة التأمل واحدة من الهبات العظيمة للبشر. فما كان لدي هنا لم يكن أزمة وإنما كان متابعة لطيفة واكتشافات وانطباعات وصور. وهنا تذكرت أن التأمل أيضا أحد الحصون المهمة في مواجهة الغضب، وبما أننا الآن صرنا نسبح في بحر ظلمات الغضب ولا أقول ألوان طيفه؛ حتى لا أظلم الألوان.

فمن الغضب المهني إلى العائلي إلى الثقافي إلى السياسي ننام ونصحوا على نفثاته وزخّاته، بِدءاً من الفضفضة الحميمة بين الأصدقاء وصولا إلى الشجار الدامي على قارعة الطريق. فإنه صار يتعين على المرء أن يحمي نفسه من الاكتواء الدائم بلهيب الغضب بأن يبتكر أساليبه الخاصة لتقنين الغضب.

بدءا من الانتخاب بين ما يستحق وما لا يستحق، وصولا إلى تحويله إلى طاقة فاعلة. فأسوأ ما في الغضب أنه وريث التعاسة التي يزكيها ويضخمها، لتلد مزيدا من الغضب فندور في دوائر مفرغة من الكآبة التي تجرفنا بعيدا عن أي استجابة لأي من بوارق الأمل، وتعجزنا عن التطلع للخلاص، ناهيك عن أنه من الثابت دوما أن الغضب لم يكن أبدا صحبة طيبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.