شعار قسم مدونات

"المسّادا".. فنتازيا الانتحار اليهودي

blogs مسادا

يصف اليهود "المسّادا" باعتبارها قلعة على جبل بعيد قرب البحر الميت. وأن جماعة صغيرة من المحاربين اليهود في هذا المكان، حاربت حتى النفس الأخير في ظروف صعبة للغاية أمام جيش روماني يفوقها عدداً وعدة. وعندما لم ير المحاربين بصيص أمل، انتحروا بصورة جماعية تفادياً للوقوع في أسر الرومان.

 

أن المرجع التاريخي الوحيد للمعلومات، عن فنتازيا "المسّادا"، جغرافياً وتاريخياً، هو ما كتبه المؤرخ اليهودي الروماني يوسيفوس فلافيوس (38- 100 ميلادي).

 

يقول البرفيسور "الإسرائيلي"، نحمان بن يهودا، أن ما يخبرنا به يوسيفوس يمكن ايجازه على النحو التالي: تمرّد اليهود في زمن الهيكل اليهودي الثاني على الغزو الروماني لمملكة "إسرائيل". وبما أن أقلية من الناس بادرت إلى إعلان التمرّد، كان الفشل مصيراً حتمياً لتمرد اليهود على الإمبراطورية الرومانية. وما عُرف في وقت لاحق باسم الثورة الكبرى كان في الواقع فشلاً عسكرياً وسياسياً ذريعاً لليهود، أدى إلى كارثة وتسبب في تدمير الهيكل الثاني، وكانت "المسّادا" هي آخر بقايا ذلك التمرّد الفاشل.   

 

كانت الجماعة القاطنة في أعلى "المسّادا" طائفة من القتلة، ولم تكن طائفة الزيلوت. وخلال مكوثهم في "المسّادا" هاجم السيكاري القرى القريبة (اليهودية) قتلوا سكانها، ونقلوا مؤنها إلى "المسّادا"

عرف اليهود في زمن التمرّد العديد من الجماعات السياسية ــ الأيديولوجية، وعُرفت بينها جماعتان هما الزيلوت والسيكاري. كانت السمة المميزة لجماعة السيكارى استخدام أسلوب الاغتيال السياسي ضد الرومان واليهود على حد سواء. وقد طُرد خارج القدس على يد اليهود، وليس الرومان، قبل حصار الجيش الروماني للمدينة وتدميرها بوقت طويل.

 

هرب السيكارى إلى "المسّادا". بهذا المعنى كانت الجماعة القاطنة في أعلى "المسّادا" طائفة من القتلة، ولم تكن طائفة الزيلوت. وخلال مكوثهم في "المسّادا" هاجم السيكاري القرى القريبة (اليهودية) قتلوا سكانها، ونقلوا مؤنها إلى "المسّادا". كانوا مسؤولين عن مذبحة مروعة قيل أنها ضد نساء وأطفال أبرياء في عين جدي.

 

جرى تدمير القدس عام 70 للميلاد، لكن حصار "المسّادا" في عام 73 للميلاد استغرق ما بين ثمانية وأربعة أشهر. وبالتالي لم تجر معارك لمدة ثلاث سنوات. ولم تجر في الواقع، كما يقول يوسيفوس فلافيوس معارك حول "المسّادا"، ما عدا فرض الحصار، واليوم السابق للانتحار الجماعي. وبالتالي، رغم الوصف التقليدي الصاخب لمعركة ضارية، لا توجد دلالة على وقع معركة بين اليهود والرومان خلال الحصار القصير.

 

وهناك في الواقع ما يدل على عدم رغبة السيكاري في محاربة الرومان. ومن الواضح أن السيكاري في "المسّادا" لم يكونوا مقتنعين بضرورة قتل أنفسهم، لذلك بّذلت جهود مكثفة لاقناعهم بضرورة قتل بعضهم البعض ــ وقتل غير المحاربين من الأطفال والنساء في "المسّادا" ــ بدلاً من الوقوع في الأسر، علاوة على ذلك، لم يُقتل جميع السيكاري وعددهم 967 في "المسّادا"، بل بقي سبعة منهم على قيد الحياة.

 

يتلخص المغزى السياسي من وراء فنتازيا "المسّادا" في كونها موقع مراسم حلف اليمين السنوية لجيش العدو الصهيوني، وقد عبر عن ذلك الشعار القومي المقتبس من أشعار لامدان Lamdan التي تتضمن أن "المسّادا لن تسقط أبدا مرة أخرى"

اقترنت فنتازيا "المسّادا"، بطريقة ما بالأركيولوجي، ايغال يادين، الذي ترأس بعثة تنقيب استمرت 11 شهراً، من أكتوبر 1963 حتى مايو 1964، ومن نوفمبر 1964 حتى إبريل 1965، فقد عبرعن أهمية "المسّادا" بالكلمات التالية: "كانت أهميتها العلمية كبيرة.  ولكن الأهم من ذلك هو أن "المسّادا" تمثل بالنسبة إلينا جميعا في "إسرائيل"  وخارج" إسرائيل"، سواء من علماء الآثار أو الناس العاديين، رمزا للشجاعة، ونصبا لأبطالنا القوميين، هؤلاء الأبطال الذين اختاروا الموت على حياة العبودية المادية والمعنوية".

 

يتلخص المغزى السياسي من وراء فنتازيا "المسّادا" في كونها موقع مراسم حلف اليمين السنوية لجيش العدو الصهيوني، وقد عبر عن ذلك الشعار القومي المقتبس من أشعار لامدان Lamdan التي تتضمن أن "المسّادا لن تسقط أبدا مرة أخرى". وغدت "المسّادا" شعاراً يُستخدم للتحريض القتالي.

 

اختلاق جغرافية "المسّادا"

خلال رحلة إدوارد روبنسون (1838 م)، وهو استاذ اللاهوت الأمريكي، بحثاً عن المواقع التي وردت في الكتابات التوراتية، ومن خلال المطابقة بين الأماكن والأسماء، استطاع روبنسون أن يتعرف على أشكال التناظر الدقيق بين أسماء المكان العبرية القديمة ونظيرتها العربية الحديثة، فبدت له قلعة "مسعدة" أو "مَصْعَدة"، التي تقع على مرتفع صخري بارز في شرق الصحراء الفلسطينية بالقرب من البحر الميت، مناسبة تماماً أن تكون هي "مسّادا".

 

 وما أن حل عام (1842م) حتى عرفها عدد من المكتشفين. وفي عام (1932) أجرت بعثة ألمانية بإدارة شولتن وإشراف الجمعية الألمانية للدراسات الفلسطينية أربعة مواسم تنقيبية تبين بنتيجتها أن القلعة تغطي مساحة من الأرض قدرها حوالي 9 هكتارات، ولها سور يحيط بالهضية ويبلغ طوله 1,300 ما يراوح عرضه بين 4 و6 م. هذا إلى جانب اكتشاف مستودعات وقصر صغير وآخر كبير (60×48م) ذي ثلاث باحات ومجموعة من المساكن وكنيسة من العهد الصليبي وبوابة وأبراج وخزانات مياه.

 

وبين عامي (1963 و1965) قامت الجامعة العبرية وجمعية الاستكشافات "الاسرائيلية" ومديرية الآثار باجراء تنقيبات أثرية كان هدفها سياسيا محصنا. وعلى الرغم من الضجة الضخمة التي رافقت هذه التنقيبات والتسهيلات الكثيرة التي وضعتها الحكومة الصهيونية  للبعثة الأثرية فان نتائجها لم تكن هامة. وتفتقر النشرات التي صدرت حول تلك النتائج إلى الروح العلمية ودقة البحث.

 

أين جثث المنتحرين؟!

المستشرق اليهودي برنارد لويس، أحد أوائل الباحثين الذين اتخذوا موقفاً صارماً من رواية "المسّادا" (1975). حيث أكد أن الرواية الحديثة للمسّادا تشكل إحدى الحالات فيما يدعوه "التاريخ المختلق"

طرح أحد علماء الآثار السؤال التالي: أين عظام حوالي 960 شخص قتلوا أنفسهم في القلعة؟! لماذا لم تكتشف في المكان أي آثار لجثث المنتحرين؟! وكانت إجابة، ايغال يادين، الذي بحث عبثاً عن الجثث في كل مكان ولم يجد شيئاً، أن الجنود الرومان أحرقوا الجثث ونُثر رمادها في كل الاتجاهات.

 

في هذا الصدد يقول كيث وايتلام، أن الجدل اللاحق لتفسيرات يادين حول بعض المكتشفات الأثرية وقراءته لرواية المؤرخ اليهودي يوسيفوس.  توضح كيف أن المواقف السياسية والدينية توجه البحث التاريخي وتتحكم في نتائجه.

 

المستشرق اليهودي برنارد لويس، أحد أوائل الباحثين الذين اتخذوا موقفاً صارماً من رواية "المسّادا" (1975). حيث أكد أن الرواية الحديثة للمسّادا تشكل إحدى الحالات فيما يدعوه "التاريخ المختلق".

 

وكتبت الباحثة اليهودية، ويبس روز مارين تقول: "ان نتائج دراستها تؤكد أن "مسّادا" محض خرافة وأسطورة، وأنه لا يمكن التدليل على سلامة المكتشفات التي تستند اليها". وقد حاجج المؤرخ الفرنسي بيير فيدال ــ ناكيه ــ بقدر كبير من الاقناع ــ أن الرواية الأسطورية للـ "مسّادا"، كما يعرفها "الإسرائيليون" وغيرهم ليست سوى مجرّد أسطورة وتلفيق.  

 

ومن أهم ناقدي، فنتازيا "المسّادا"، هو، البرفيسور "الإسرائيلي"، نحمان بن يهودا، الذي كرَّس وقتا طويلا لتفكيك فنتازيا "المسّادا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.