شعار قسم مدونات

غزة في شعب أبي طالب

blogs - حصار غزة
يستشري الحصار الظالم في أوصال الشعب الفلسطيني بغزة من جديد، وكأنه مرض عضال أصاب شاباً قوياً يافعاً أنهكت جسده الأمراض والأسقام، هذا الحصار المستمر منذ عقد من الزمن لا يزال يؤرق الغزيين ويسرق من عيونهم الراحة ومن قلوبهم الطمأنينة خوفاً من المستقبل المجهول الذي ينتظرهم وينتظر أبناءهم، بدأت الحكاية بعد فوز حركة حماس في الانتخابات البرلمانية عام 2006، كإجراء عقابي للمجتمع الفلسطيني الذي ظل يدعم مشروع المقاومة والتحرر ويحتضن أبناءها المجاهدين والمقاومين مقدماً الغالي والنفيس في سبيل الوصول إلى حلم التحرر، لا سيما أن شعبنا الصابر أيقن بعد عقدين من الزمن أن عملية المفاوضات العبثية لم تجلب له سوى مزيد من التفريط والتنازل وتوسيع الاستيطان وتقطيع أوصال المدن وتحويلها لكنتونات متفرقة، ناهيك عن مشروع تهويد القدس والسعي لتحويلها لمدينة عبرية وطمس معالمها الإسلامية الأصيلة.

إجراءات قوية ومشددة اتخذها المحاصِرون ضد أهل غزة وعلى جميع الأصعدة وبوسائل مختلفة من حصار سياسي شديد مروراً بحصار اقتصادي خانق وليس انتهاءً بتشويه المقاومة الفلسطينية إعلامياً ورميها بتهم الإرهاب والتطرف، كل ذلك يأتي في إطار ابتزاز مشروع المقاومة ومحاولة عزلها وتجويع المناصرين لها كي يثوروا على خياراتهم التي وثقوا بها. هذه الأساليب القاسية تكاد تتشابه تماماً مع ما استخدمه مشركو قريش بحق الدعوة الإسلامية وأتباعها ليرتدوا عن دينهم بعد أن هداهم الله إليه ويُسلموا رسول الله لأعدائه وينفضّوا من حوله، ظانين بذلك أنهم سينجحون في وأد الدعوة وقمع أتباعها وردهم إلى ما كانوا عليه من الجهل والضلال والعبودية لقادة قريش وأسيادها.

ما أزمة قطع العلاقات مع قطر والتي تقودها الإمارات والسعودية والبحرين ومصر وما تبعها من ترهيب للمتعاطفين معها ومع غزة من نخب ومثقفين ودعاة، إلا فصلاً من فصول المؤامرة لتحييد المناصرين الداعمين لغزة وعزل الظهير السياسي التي ترتكز عليه المقاومة وصولاً لعزلها والاستفراد بها.

أيقن أعداء دعوة الحق المحمدية في مكة أن جميع محاولاتهم لضرب واستئصال هذه الدعوة باءت بالفشل، فلم يتركوا سبيلاً إلا وسلكوه لوقف المد الإسلامي في مهده، الفشل كان حليفهم منذ البداية، فمحاولة تحييد أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم عن دعمه وتوفير الحماية له، واستخدام سلاح الإعلام لبث الشائعات والافتراءات، وحملات التشويه والتخويف، لم تكن كافية لإقصاء النبي وأتباعه عن طريق ذات الشوكة.

اختلف الزمان والمكان لكن الوسائل هي ذاتها لا تزال حاضرة، فغزة لم تكن بمنأى عن هذه الوسائل القذرة لنفس السبب الذي هوجم له سلفهم من المسلمين، مناصرة الحق والسير على نهجه ودعم المقاومة في عالم يهوى الظلم كان كفيلاً بأن يجلب خفافيش الظلام وأباطرة الخبث لكسر صمود أهل غزة وتركيع شعبها، لكن أهل الحق امتلكوا مقومات الصمود في شِعْبِ أبي طالب فتكسرت أذرع المؤامرة واحدة تلو الأخرى على صخرة ثباتهم وتماسكهم واجتماعهم على قلب رجل واحد.

إبليس وجنوده بدأوا أول ما بدأوا بتحذير الحكومات والمؤسسات الدولية لدفعها لمغادرة غزة، وصولاً لافتعال أزمات داخلية متعلقة بالحاجات الأساسية الماسة للمواطن من غذاء وماء وكهرباء ومساومتها بين فترة وأخرى على الدواء، ناهيك عن بث روح اليأس والإحباط بين المواطنين وتشكيك الناس في خياراتهم باتهام مشروع المقاومة بكل هذه المصائب والافتراءات لتجنيب الاحتلال وأذنابه المتآمرين أي مسئولية قانونية أو أخلاقية عن هذا الحصار.

شِعْبُ أبي طالب الذي حاصر فيه الظالمون من كفار قريش بني جلدتهم وأبناء عمومتهم ممن آمن بالرسالة المحمدية ضَمَّ كل من كان مناصراً ومؤيداً للنبي – صلى الله عليه وسلم – سواء أكان مسلماً أو كافراً، لا لشيء إلا لأنهم ناصروا الحق ودعموه امتثالاً لما تمليه عليهم الأعراف والقيم العروبية الأصيلة من إغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج، هؤلاء الثابتون أدركوا أن مناصرة الحق لن تمر إلا بثمن يُدفع وأنفسٍ تُزهق في سبيل الثبات على المبادئ والقيم، إنها الضريبة التي يجب أن يدفعها الثائرون على الظلم والقهر والاستبداد، وصدق الشاعر حين قال:
لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى …. حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِـهِ الـدَمُ.

مع دخول أهل الشِّعبِ في غزة مراحل متقدمة من المصابرة، قرر الاحتلال الدخول في مرحلة جديدة لتكون فصلاً من فصول الثبات يضاف للسجل الناصع لأهل الحق، الحرب العسكرية للقضاء على المشروع المقاوم الذي يقف سداً منيعاً في وجه طموحات الاحتلال لتمرير مشاريعه التوسعية سياسياً وعسكرياً، ثلاثة حروب طاحنة خلفت آلاف الشهداء والجرحى ومئات البيوت المهدمة وعشرات القصص المؤلمة التي نُحِتت في ضمير الشعب الصامد، كانت كفيلة بإسقاط دولٍ عظمى تمتلك جيوش جرارة ولها من مقومات الصمود والبقاء الكثير، لكن غزة التي تفتقد لكل هذه المقومات تخرج في كل مرة أصلب عوداً وأقوى شكيمة وأشد إصراراً على الاستمرار في وجه من يحاول أن يسوّق الأكاذيب والترهات التي تهدف لتصفية القضية الفلسطينية ومقاومتها وإفراغها من مضمونها وعزلها عن عمقها العربي والإسلامي.

هل سيهتدي بنو جلدتنا من الفلسطينيين أو العرب لنقض وإفشال هذه المؤامرة كما نقضها بعضٌ من أسلافهم المحاصِرين للنبي لما رأوا أقرباءهم من الشيوخ والنساء يعانون الألم والحرمان والأطفال الذين يتضورون جوعاً بفعل الحصار المفروض عليهم؟

الغريب هذه المرة أن الذين يحملون لواء الحصار على القطاع المظلوم ويجتهدون في نسج خيوط المؤامرة هم من بني جلدتنا فلسطينيون وعرباً، أما العدو فلقد كفاه بنو جلدتنا عناء هذه الحرب القذرة وتكلفة الحصار الأخلاقية والإنسانية التي تستهدف حاجات الناس الماسة من غذاء ودواء، ليقف عدونا موقف المتفرج السعيد الشامت بما آلت إليه أمور العرب والمسلمين من تنازع وتناحر بينهم، فما أزمة قطع العلاقات مع قطر والتي تقودها الإمارات والسعودية والبحرين ومصر وما تبعها من ترهيب للمتعاطفين معها ومع غزة من نخب ومثقفين ودعاة إلا فصلاً من فصول المؤامرة لتحييد المناصرين الداعمين لغزة وعزل الظهير السياسي التي ترتكز عليه المقاومة وصولاً لعزلها والاستفراد بها، وإن تعجب فعجب قولهم إذ قالوا بأن حماس "حركة إرهابية" تسعى لنشر العنف والتطرف في الدول العربية!

إنه حقاً زمن يصبح الحليم فيه حيراناً، فالعدو القاتل المجرم أصبح صديقاً يُخاطب بالعبارات الناعمة والمنمقة أما المقاوم الذي يجاهد لحرية شعبه وكرامة أمته أصبح مجرماً إرهابياً يستحق المقاطعة والعقاب، ولعمري فإن هذه الحالة التي أوصلنا إليها بعض حكامنا لا تخدم إلا المصالح الصهيونية في المنطقة، فـ "إسرائيل" تسير بخطوات واثقة الآن نحو التطبيع العلني مع العواصم العربية الوازنة بعد أن كان تطبيعهم في الغرف المغلقة وخلف الكواليس، لذلك فقد وجب القضاء على القوة التي تقف سداً منيعاً في وده تلك المؤامرة.. إنها غزة الصامدة الصابرة.

ومع اشتداد الحصار وبلوغه مبلغاً عظيماً.. هل تخرج غزة منتصرة هذه المرة من شِعْبِ أبي طالب الذي يُراد لها أن تُلقى فيه لتقاسي وأبناءها الجوع والحرمان والمعاناة حتى ترفع الراية البيضاء وتسلم رأسها لأعدائها؟؟ هل سيهتدي بنو جلدتنا من الفلسطينيين أو العرب لنقض وإفشال هذه المؤامرة كما نقضها بعضٌ من أسلافهم المحاصِرين للنبي لما رأوا أقرباءهم من الشيوخ والنساء يعانون الألم والحرمان والأطفال الذين يتضورون جوعاً بفعل الحصار المفروض عليهم؟

في ظل هذه الحالة الصعبة، لا تزال غزة على ثقة بموعود الله بانتظار الوعد القرآني المستوحى من قوله تعالى "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.