شعار قسم مدونات

متى تعتق التقنية أرواحنا؟

blogs - استخدام مواقع التواصل

منذ ما يقرب من سبعة أعوام وأنا أتقلب فيما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعي، فهذه التقنية وإن كان فيها من الإيجابيات الكثير، ففيها أيضا من السلبيات ما هو أكثر، وكما لا يستطيع أحد أن ينكر أن هذا الشيء قد فتح أفاق التواصل ومد جسور المعرفة، فما من عاقل أيضاً يستطيع أن ينكر أنه قد حيد الواقع، وجعل منه شيئاً ثانويا في حياتنا، فما يقتطعه هذا الواقع الافتراضي من أوقاتنا أكثر بكثير مما نهبه على مضض لواقعنا الذي نعيشه، فأصبحت التقنية أولى الأولويات وخلفها يصطف كل ما هو ذا أهمية ليأخذ دوره بعدها، إن بقى لما سواها وقت من الأساس.

ولما كان لهذا الفضاء نصيب الأسد من أوقاتنا؛ فقد فتش في دواخلنا وأستخرج منها ما يواكب هذا عصره بسوأته وحسناته، وامتدت يده إلى شواغلنا لتترجمها إلى عبارات وعبرات، ومست لغته ما يجول في خواطرنا لتستحلها سطوراً على اختلاف نوازعنا، يمضي بها ليعرضها على كل من نعرف ولا نعرف، فاستوجب الأمر منا الحكمة وإن لم نكن أهلها، وجعلنا نضرب على أفكارنا بسياج من الأناة والتأنق بما قد يخالف حقيقتنا على الأغلب، وخَلق منا بناية تتراءى للناظر وكأن بنيانها مرصوص؛ وقد تكون من الداخل مكباً للركام!

هذا الشيء وإن كان له ما له؛ إلا أنه قد جعل من جمعنا أجسام بلا أرواح… هياكل تتحرك في كل مكان بوتيرة سريعة، لا تشعر بخطوات الزمن ولا بدقات الساعات… أشباحٌ هائمة على وجهها لا تدري أي مكان تقصد أو أي غاية إليها مردها

الأمر وإن كان ظاهره حسن، إلا أنه لن يخلو من صدامٍ مع الحقيقة حال رجوعنا لضمائرنا في حقيقة أنفسنا! قد يكون في الأمر ما لا يستسيغه الكثيرون، إلا أن هذا الشيء "مواقع التواصل الاجتماعي" قد خلق منا حكماء تنقصهم الحكمة، وقضاة تنقصهم البينة والدليل، وجعل منا راشدين بلا غاية أو هدف…، ربما هناك ما هو خطأ في واحد من طرفي هذه المعادلة، ولا نعرف ما هي حقيقته…، وربما كنا بحاجة إلى من يكتشفنا ويفتش في دواخلنا فيستخرج منها ما استصعب على غيره، ولم يحسن من حولنا قراءتنا فنجود عليه بما آثرنا به صدورنا وكتمناه لميعاده، فكان لقاءنا بهذا الشيء هو الميعاد؛ فأفضينا له بما لم نكن نفضي به لغيره.

هذا الشيء وإن كان له ما له؛ إلا أنه قد جعل من جمعنا أجسام بلا أرواح… هياكل تتحرك في كل مكان بوتيرة سريعة، لا تشعر بخطوات الزمن ولا بدقات الساعات… أشباحٌ هائمة على وجهها لا تدري أي مكان تقصد أو أي غاية إليها مردها.. نتقابل، ونتجالس، ثم نفترق وكأننا لم نلتقي.. نستمع إلى بعضنا البعض لا نرقب حركات الشفاة ولا تعابير الوجوه فلا يكتمل السمع ولا يستقر في أذهاننا معنىً للحديث؛ فكلنا منزوع الروح مسروق البال بما أولينا لشاشتنا الصغيرة، فقد أدخلتنا هذه الشاشات في غربة وغيبة طويلة الأمد ولا ندري متى تكون عودتنا؟

قد نكون غير منصفين؛ إذا وصفنا حالنا مع هذه التقنية (بالتعلق) لأن الأمر أصبح لا يدور في هذه الدائرة، إنما هو أعظم من ذلك، فتلكم الأجهزة الصغيرة التي في أيدينا قد سرقت أرواحنا، وحاصرتنا فاسترقتنا بعدما انتصرت علينا في معركة الوجود؛ فأوجدت نفسها ومحتنا وما أبقت منا إلا الذكرى…؛ مومياوات متحركة كانت تسكنها الروح في يوم من الأيام، وإنه لمن الصعب أن تحدد تاريخ مفارقة الأرواح لهذه الجسوم، فلكل منا ميتة ماتها بفعل هذه الأجهزة ولا يعرف متى كانت؟ بيد أن كلنا يعرف أنه قد بدأ يحتضر حين أصبح يملك واحداً من هذه الأجهزة.

قد حملتنا هذه التقنية بغتة إلى فضاءها وما زلنا عالقين هناك؛ حيث لا ندري هل هذا واقعنا الحقيقي؟ أم أنه كتب علينا أن نعيش واقعين؛ أحدهما وردي كالأحلام، لكنه مثالي حد الإفراط، والأخر يختلط فيه الطهر بالأخطاء

اقتحمت هذه التقنية حياتنا المجتمعية؛ فأخلت بكل نظام قامت عليه هذه الحياة؛ والذي كانت تستمد منه استمراريتها، وعبثت بكل شيء فلم تبقي شيئاً علي حاله، وبها ومعها ضاعت كل الحرمات؛ فلم تبقي على حرمة لزمان أو مكان،… وجعلت من الاختلاف ائتلاف وتشابه، لكنه في الشخوص، وهو أبعد ما يكون في الأفكار فمتى كان للموتى أفكار؟!.. وأصبحت المعرفة بالأشخاص تكون من خلال صور، وكلمات منمقة لو نطقت الصور لأنكرت أن تكون صاحبة الكلمات! وكأنه أن نكون اصحاب عيوب ليس دارجاً بين بني الإنسان، وكأن المثالية قد نزلت على الأرض مرة واحدة، وأصبح كل شيء مثالي، وعليه فنحن لابد أن نكون كذلك.

قد حملتنا هذه التقنية بغتة إلى فضاءها وما زلنا عالقين هناك؛ حيث لا ندري هل هذا واقعنا الحقيقي؟ أم أنه كتب علينا أن نعيش واقعين؛ أحدهما وردي كالأحلام، لكنه مثالي حد الإفراط، والأخر يختلط فيه الطهر بالأخطاء؛ إلا أنه هو الحقيقية التي لا ملجأ منها، والفلسفة التي تقوم عليها الحياة، وهو كينونتها وإليه صيرورتها، ومنه نستمد بشريتنا التي عليها جبلنا. 

ومازال سؤال يداعب خاطري كلما ولجت إلى نفسي هربا من شاشتي: متى تعتق هذه التقنية أرواحنا؟ فقد سئمنا هذه المثالية المفرطة والمدعاة في أغلب الأحيان، ولا أحسبني وحدي في هذا. تراكمت الأسئلة _عن مستقبلنا مع التقنية_ في مستودع خواطرنا على أمل أن نجد لواحد منها جواب؛ فتهدأ ثورتنا المكتومة داخل كل واحد فينا، وتبرز الحقيقة لنسكن بها نوازع النفس ويغلق باب لا أظنه يغلق عما قريب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.