شعار قسم مدونات

الأدب العربي.. بين الأمس واليوم!

blogs كتب
كنتُ بصدد مطالعة كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأديب العربية الكبير أبي حيّان التوحيدي (ت 414هـ) الذي ضمَّنَه أخبارَ ثمانيَ وثلاثين ليلةَ سمر وأحاديثَها، أمضاها في منادمة الوزير أبي عبد الله العارض.. كنتُ أجدُ متعةً رهيبةً (!) في تتبُّعِ آثار الحكمةِ العاليةِ، ورسوم البلاغةِ الساطعةِ، ووهجِ الأدبِ الجمِّ، ولذَّة اللغو المباح.. حتَّى تركتُ ما في يدي وأقبلتُ بكل جارحة فيَّ على تصفُّحِ تضاعيف الكتاب، أفلِّيه ليلة، ليلة.. فوجدتها تُعادل ليالي شهرزاد متعة وتشويقا؛ إلّا أنَّها خلوٌ من المجون والجراءة، فجوهر الحديث حِكَمٌ وفكر وفلسفة.. وغاية المنادمة مواعظُ شائقة تميل بالنفس ناحية التألُّه، ونصائحُ رائقة تسمو بالروح إلى عليِّين..

إنَّ "أبا حيَّان التوحيدي" ظاهرةٌ أدبيةٌ نادرة الوجود في التاريخ الإنساني، فرغم ما كان عليه من علم بالعربية واطلاع واسعٍ على أخبار العرب وأيَّامهم؛ فقد ناله -ما نال الأديب- من شظفِ العيش ونكد الحياة ما جعله يتبرم بحاله ومآلهِ، وضمَّن ذلك بعض كتبه(1).. وفي تاريخ الأدب العربي ظواهرُ أدبية فريدة منقطعة النظير، لم تعطَ حقَّها من الانتشار والدراسة، وتكاد تكون كالقاعدة التي في قول أبي الطيب المتنبي:

وما أنا مِنْهُمُ بالعَيشِ فيهم
ولكنْ مَعدِنُ الذّهَبِ الرَّغامُ
لا أبالغ إذا قلتُ أنَّ الغرب مع ما وصلوا من أوج التطوِّر والرقيِّ، وخدمة الكتَابِ والكُتَّاب والآداب، فإنَّهم لم يصلوا -بعدُ- إلى عشر ذخيرتنا والتي ضاع منها ما ضاع بسبب الإهمال والسرقة والحروب..إلخ لا كمَّا ولا نوعا.

وذلك أنَّ الفنَّان والمبدع والعالِمَ الحقَّ محكوم عليه بالبؤس، وضنك العيش، حتَّى لكأن ضريبةَ الفن والإبداع والتعلم والتعليم؛ هي أن تُطلّق دنياك -دار الممر- مقتنعا بالذكر الحسن فيها، وأن تُقْبِل على آخرتك –دار المستقر- محتسبا الأجر عند مليك مُقتدِر!

وليس التوحيدي -لوحده- من أتى على الغاية في التأليف والوضع؛ بل إنَّ أسلافنا ممن تصدروا للتدوين في الأدب، والتأريخ للأخبار برصد المنثور والأراجيز والأشعار كانوا على ذلك النحو.. فها هُنَا ابن قتَيبة الدينَوَري (ت 276هـ)، وأبو عثمان الجاحظ (ت 255هـ)، وأبو فرج الأصفهاني (ت 356هـ)، وابن رشيق القيرواني (ت 463هـ)، وأبو العلاء المعري (ت 449هـ)، وعبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، وجار الله الزمخشري (ت 538هـ)، وعبد القادر البغدادي (ت 1093هـ) … وغيرهم ممَن سارت بمؤلفاتهم الركبان، فغدَوْا كالمصباح المنير يكشف بضيائه ما ادلهمَّ من بنيات الطريق لمَن خلفوهم على عرش الأدب!

لو قدِّر أن -لكلّ من التقم قلما يريد الكتابة- أن يعكَفَ على هذه الينابيع الثرَّة للأدب النقي الديباحة، الناصع الأسلوب؛ لكان كافيا له في تطوير ملكةِ التحرير، وصقل موهبة التحبير؛ خاصة وأنَّ هذا الأدب قد دوٍّن في عصور السليقة النقيَّة، وزمان الاستشهاد والرواية والإنشاد.

فلو قدِّر -اليوم- دراسة ذلك التراث دراسةً فاحصةً والاستفادةَ منه بكشف أسرارِه واستنطاق أغوارِه؛ لأخرجنا جيلا من الكتَّابِ نفاخر بهم كل البشرية، بحيث نجعل حصادَ أقلامهم مستهلَكًا يوميا، فنصدر أدبهم بترجمة أعمالهم إلى ألسنة غير ألسنتنا، لتطالعنا كلُّ الدنيا، وتُسافر عبر أزقَّتنا وشوارعنا، وتجوب ضمائرنا وتتخلل نفوسنا من خلال صفحات السِفر المجوَّد!

للأسف نجدُ من دعاة التغريب، مَن يسأل هذا السؤال الفاجر:
"أين أدبنا؟!
أين أدباؤنا؟!
أين تراث العربية المزعوم؟!!!"
ساعيا –بتخرُّصه- إلى طمسِ قرصِ الشمس جاعلا كفَّه حائلا بينه وبين نورها الوهَّاج؛ وقد خسئ هذا المأفون وأمثاله من المستغربين؛ فالمكتبة العربية زاخرة بكل أصناف الأدب، الدالة على كرم هذه الأمة المباركة وكرامتها.

ولا أبالغ إذا قلتُ أنَّ الغرب مع ما وصلوا من أوج التطوِّر والرقيِّ، وخدمة الكتَابِ والكُتَّاب والآداب، فإنَّهم لم يصلوا -بعدُ- إلى عشر ذخيرتنا والتي ضاع منها ما ضاع بسبب الإهمال والسرقة والحروب …إلخ لا كمَّا ولا نوعا؛ لهذا تجد المتاحف العظمى في ربوع العالم، تتصارع لكي تحوز وتحظى بمخطوط نادر ككتاب "مسالك الأبصار لممالك الأمصار" لابن فضل الله العمري (ت 749هـ) الذي يقعُ في ثلاثين مجلدة(2).. وحقَّ لكل فريق ما صنع!
____________________________
الهوامش:
1) يقول –غفر الله له-: «ولقد اضطررتُ بينهم (يقصد النَّاس) بعد العِشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفُّفِ الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلبِ صاحبه الألم»!

2) أكاد أجزم أنّ أغلب مثقفينا لا يعرفون شيئا عن هذه الموسوعة الجغرافية الضخمة المتفردة التي حبَّرها مؤلفها بأسلوب أدبيٍّ رفيع ساق فيها أخبار الأمصار، ومواقع الجزر والبحار من حافظته وهو خلف القضبان!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.