شعار قسم مدونات

في ضيافة المغول

blogs - منغوليا
حطّت بنا الطائرة صباحا في مطار "حبيس" ومعزول في قلب صحراء منغوليا الداخلية الشاسعة، مطار يمثل بناؤه في ذلك المكان أهمية ورمزية الصحراء في حياة وثقافة المغول. وسعيهم الدؤوب للارتباط بها ماديا ومعنويا. ركبنا الباص واتجهنا مباشرة إلى مساحات خضراء شاسعة تؤكد حسب المسؤولين المحليين نجاح خطة الصين في مكافحة التصحر، وليس التصحر فقط بل واستغلال البيئة الصحراوية لتوليد الطاقة عبر نشر أكثر من 154 لوحا شمسيا ضخما لتوليد الكهرباء إلى جانب مئات طواحين الهواء. 
سألتُ أحد الزملاء بعد وصولنا منغوليا الداخلية مباشرة عن برنامج الرحلة في الإقليم، وبعد تفحّص الكُتيّب قال إننا في طريقنا إلى مقر شركة نجحت في فك العزلة عن السكان المنغوليين في الإقليم. كانت مفارقة طريفة، فالرجال الذين كان آباؤهم يسيطرون على مساحة تقدر بـ 33 مليون متر مربع في عام 1279 وبنت الصين نفسها سورا عظيما خوفا منهم ومن جبروتهم؛ يعتبرون تعبيد طريق وزرع أشجار على جانبيه مكرمة لا تقدر بثمن من الحكومة المركزية، حكومة يذكر لها البعض تنفيذ مشاريع تنموية واقتصادية عملاقة في بعض مدن الإقليم، كما أطلقت برامج كثيرة لانتشال الساكنة من الفقر، ودعمت المزارعين حتى مكنتهم من الوصول بمنتجاتهم إلى السوق.

فيما يخص "هولاكو" حفيد جنكيزخان، فقد تأكدتُ بعد سماعي لحديث المرشدة السياحية عنه وعن سيرته اختلاف شخصيته تماما عن "أحمد ماهر" الذي لم يغادر خيمته من بداية مسلسل الفرسان حتى نهايته.

ومع ذلك ما زال الساكنة يحتفظون بكثير من الأنفة والكبرياء ولا يخافون من الحديث عن أي موضوع حتى ولو كان انتقاد أحد أهم معالم الصين وهو السور العظيم، والذي عبّر عنه أحد المشرفين على المتحف المنغولي عندما وصفه بعديم الفائدة، وأن قرار تشييده بلا قيمة، وأضاف.. كان البعض قادرا على الوصول إلى قلب الصين حتى بعد بناء السور، في إشارة واضحة إلى الماضي القوي والتوسعي لأجداده.

يتميز الشعب المنغولي أيضا بالفروسية التي يعتبرها من أهم مميزات الرجل الناجح والناضج، ويمثل الحصان رمزا تاريخيا وثقافيا إلى جانب كونه مصدرا للفخر والتفاؤل، صور الأحصنة في كل مكان وتعلو واجهات المباني الحكومية والمحلات التجارية، كما يتميزون بكرم الضيافة التي بدأوها بالغناء ترحيبا عند دخولنا أول أحياء الإقليم. بعدها اتجهنا إلى مدينة أوردوس الجميلة، كان كل شيء فيها عن جنكيز خان؛ من الموسيقى التي تُسمع في كل أرجائها من مكبرات صوت عملاقة معلقة بأعمدة الإنارة، إلى التمثال الضخم في قلبها والذي يظهر جنكيزخان بجانب رجال من بينهم عربي ويشير لهم نحو الأمام، التمثال حسب المرشدين يرمز لحرص جنكيزخان على التعلم والنهل من كل الثقافات والأعراق المختلفة، إلى جانب كون منغوليا ممرا رئيسا لقوافل طريق الحرير الذي كان له دور كبير في تلاقي الشعوب من مختلف أنحاء العالم آنذاك.

بعدها اتجهنا إلى مكان أنتجت عنه برامج وثائقية كثيرة حتى تحول إلى معلم من أهم معالم منغوليا الداخلية، المكان عبارة عن سهول خصبة وخضراء شاسعة تنتصب عليها خيام منغولية تقليدية كان يستخدمها المحاربون للاستراحة أثناء الحملات العسكرية ويستخدمها اليوم من اصطلح على تسميتهم برعاة السهول وعشاق الخيول من المغول.

يُنظر إلى جنكيز خان في منغوليا كبطل قومي ورجل دولة عبقري ومؤسس الإمبراطورية المنغولية بعد نجاحه في توحيد القبائل تحت راية واحدة. يقول أحد المثقفين المنغوليين "لا جدال حول كون جنكيز خان بطلا بكل ما تحمل البطولة من معنى وتجسيد، لكننا لا نعتبره إلها، هو قائد له أخطاء إلى جانب إنجازاته التاريخية والتي لولا سقوطه من على حصانه في آخر غزواته لكانت إمبراطورية المغول فاقت الإمبراطورية البريطانية مساحة".
 
وفيما يخص "هولاكو" حفيد جنكيزخان، فقد تأكدتُ بعد سماعي لحديث المرشدة السياحية عنه وعن سيرته اختلاف شخصيته تماما عن "أحمد ماهر" الذي لم يغادر خيمته من بداية مسلسل الفرسان حتى نهايته مكتفيا بالبكاء واستحضار "روح" جده وترديد وصفه بالمخلد دائما. هولاكو في منغوليا كان قائدا عسكريا قويا وتمكنت حملاته العسكرية التي كان يتقدمها في كل مرة من السيطرة على شرق وغرب آسيا واحتلال إيران والعراق وسوريا حتى اصطدم بالمماليك في مصر والذين هُزم على أيديهم.

منغوليا الداخلية مكان منقوع في التاريخ رغم الحداثة والعصرنة وشعب يحمل اعتزازا أسطوريا بتاريخه وماضيه وشوارع مدن الإقليم عبارة عن صفحات سطّر الشعب فيها ما يراه أمجادا وبطولات.

يُلاحظ المتجول في مدن منغوليا ومقاطعاتها اختلاف السحنة المنغولية عن الصينية حيث يتميزون ببشرة بيضاء فاتحة وعيون يقترب لونها من الأزرق وبنيات جسمانية ضخمة. ويلاحظ المتحدث باللغة العربية تشابه طريقة كتابة اللغة المنغولية الشديد بها ولولا أن اقتربتُ ودققتُ لما لاحظت أنها مختلفة، مخارج الحروف عندهم أيضا انسيابية وينطقون أغلب الحروف بالطريقة التي ننطقها بها.

من صفات الشعب المنغولي أنهم لا يستخدمون القُبل في التحية والسلام، ولا يشيرون بالأصبع نحو الشخص وإنما باليد كلها، ولا يحبون أن يرفض شخص ما يقدمونه له كنوع من طقوس الضيافة ولا يسمحون للغرباء بالاقتراب من النسوة، ويغضبون عندما توجه نحوهم باطن قدمك ويتشاءمون من امتطاء الحصان والنزول عنه من الجهة اليمنى.

منغوليا الداخلية مكان منقوع في التاريخ رغم الحداثة والعصرنة وشعب يحمل اعتزازا أسطوريا بتاريخه وماضيه وشوارع مدن الإقليم عبارة عن صفحات سطّر الشعب فيها ما يراه أمجادا وبطولات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.