شعار قسم مدونات

نقد التمثلات الخاطئة حول القانون.. في المقدمات والممهدات (1)

blogs - law
حاولت أن أساير إيقاع اللامعنى المتمركز في عقولنا، وأن أبحث عن المعنى الغائب فينا، لكن فشلت في أن أمزج بين الخيارين المتناقضين، يذكرني هذا الأمر بما كان يعاني منه طبيب انجليزي في رواية أدبية حول انفصام شخصيته، من ميستر هايد الشرير إلى الدكتور جيكل الطيب كتبها روبرت ستيفنسون.

على غرار هذا الإحساس المنفصل عن واقعي، جلست أخط أولى ما كنت أنوي كتابته مسايرا لمشروعي الذي قررت تشييده رغم المعارضة والجفاء الذي ألاقيه، لكن أحاول أن أستمر رغم ما أعيشه في زمن المعارضة من أجل المعارضة.

فكرت أن تكتب عن الأمن القانوني وتنقد مبادئه من أجل نقضه، أو أن تكتب عن القضاء من عمله التنفيذي إلى فعله الإنجازي، لكنك لم تستطع أن تطرح الموضوع للمناقشة وأنت لك فيه بعض من المؤثرات الشخصية التي يمكنها أن تعصف بالموضوعية في طرحك، ثم ما لبت أن فكرت في موضوع متعلق بأزمة الاجتهاد الفقهي في القانون. وسرعان ما وجدت نفسك في إطار نقد التمثلات الخاطئة المتصورة عن القانون.

ولما كان القانون شر لابد منه، أو قل وسيلة شريرة لتحقيق الخير بها، فإن التفكير في نقد الشوائب عنه واستصفاء ما حسن منه أمر لازم فعله في ضوء ما سطرناه سابقا من أفكار. زاد من حماسة الكلام في هذه التمثلات الخاطئة أنك ما أن ركبت ذات يوم في إحدى الحافلات التي تعتمد انضباطا وصرامة ووقتا محددا للسفر، حتى رأيت واقعة جعلتك تفكر في القانون وفي تلك التمثلات الخاطئة التي تعصف بالقانون عصفا، بعد أن عصفت به أيادي المشرعين والمنفذين، بل عصف به عقل الباحث القارئ للنصوص، الذي لا يستقرئ منه ما صلح لتكوين إطار نظري-فقهي، بل إن صفة فقيه صارت إلى الهاوية.

إن المحكمة في بنيتها العامة تتميز بحقيقة عنيفة دالة على الصراع لا على الصلح، لا يكون للصلح سوى نصيب مقتضب ونمطي غير فاعل في إنتاج أثر بين المتنازعين.

جرت الواقعة البسيطة أمام مقلتيك، رأيت مسافرا يقول إنه قام بقطع تذكرة، وقد تركها سهوا وصديقته أتت بها إليه، صعد إلى الحافلة، ولما جلس في مقعده جاءه المراقب يطالبه بالتذكرة، دون محاولة من المراقب في فهم ما يريد أن يقوله المسافر. انتفض المسافر من مكانه، وقال له: "… أنا زبون معتاد على الذهاب في هذه الحافلة اليوم وقع لي طارئ جعلني أنسى التذكرة …".

كان خطاب المسافر إلى المراقب خطابا منفصلا عن واقع القانون المنضبط الذي لا يهتم بالتفاصيل، بل يهتم فقط بالجانب الإجرائي في الإنسان، فقال له مسافر آخر أن المراقب إنما يطبق القانون، ذلك القانون الذي في نظرنا يلغي العدالة في المسألة، حتى أن المواطنون الآخرون سرعان ما يجدون أنفسهم لا يستطيعون الدفاع عن المخالف للقانون، ولو بحسن نية، ويحولون حسن نيته، إلى مغالطة تتمثل قي عدم حماية القانون للمغفلين.

لذلك لم يعد القانون اليوم ينتج الخطاب الملائم للواقع، بل خطابا ينطلق المتعاملون معه بتمثلات خاطئة، أبرزها أن القانون لا يحمي المغفلين، وكأن المغفل قد أجرم لما لم يستطع أن يصل للقانون وأن يفتحه نحوه ليعرف ما هو الواجب وما هو المحرم في لغة القانون. عندما يكون الشخص في دائرة التعامل القانوني يبدأ بالتبجح على الآخر بأن عمله قانوني، وأن عمل ذلك الآخر غير قانوني، وبين القانون واللا قانون مسافة غير محكمة من المتغيرات الواقعية التي تجعل من الشخص المتكلم باسم القانون ديكتاتورا يمارس ساديته تجاه الآخر.

سادية منطلقة من تطبيقه السليم للقانون، فتراه يلغي في القانون النزعة النفسية، بل يحول القانون إلى رموز اعتباطية تلغي الجانب النفسي في الإنسان، نظرة تشييئية، على عكس ما يقول ألان سوبيو أن القانون يؤنسن التقنية، بل قل إنه يضع الإنسان موضع الأشياء، ومنها التقنية، الإنسان ليس كائنا مركبا من الانضباط فقط، بل له هامش من التعقد النفسي وبعض من الأبعاد التلقائية في شخصيته، لكن القانون يقضي على هذه السجية.

لم يعد القانون اليوم ينتج الخطاب الملائم للواقع، بل خطابا ينطلق المتعاملون معه بتمثلات خاطئة، أبرزها أن القانون لا يحمي المغفلين، وكأن المغفل قد أجرم لما لم يستطع أن يصل للقانون.

بل يحول النزاع المفتعل بين الأشخاص إلى حرب ضروس لا مجال للصلح فيها، كانت الشريعة الإسلامية في ما مضى قانونا منضبطا للأخلاق، وكان الخاضعون له لا ينطوي نزاعهم على وقائع فاسدة تكرس العنف بين المتنازعين، أما اليوم فأصبح القانون يضع الصلح كقاعدة ضيقة إما بحكم النص أو بالواقع، فلا يجوز التوسع في تطبيقها.

هكذا ترى الفصل 277 من قانون المسطرة المدنية بالمغرب قد اتجه رأسا نحو الصلح كخاصية من خصائص القواعد المسيطرة في المادة الاجتماعية، ونص على أنه: "يحاول القاضي في بداية الجلسة أن التصالح بين الأطراف" ثم جعل لهذا الصلح أثرا نظمه الفصل الموالي (الفصل 298)، ولعل التفحص في هذا الفصل يمكن أن يستقريء منه أن المشرع جعل من الصلح لحظة زمنية وجيزة داخل نمط قضائي صراعي، ولقد استعمل المشرع دلالة على أنها لحظة عابرة، عبارة "… يحاول القاضي …" وفي المحاولة شرف كما يقال، لذلك يتجه القاضي بعد فشل الصلح نحو تطبيق الفصل 279 من أجل تحرير محضر عدم تمكنه من إجراء الصلح فيتجه حالا إلى البت في القضية.

وتبوء محاولة الصلح بالفشل الذريع لأن المتنازعين يكونان على استعداد للمنازعة وليس للصلح، خصوصا وأن المشرع قد ترك بكلماته المقتضبة والمنطوية على إضمار للحظة زمنية وتقزيمها في وعي المتنازعين، صراع ظاهر بينهما. لقد حاول المشرع أن يناقش مسألة الصلح في القانون المنظم للتعويض عن حوادث الشغل، بأن أفرد بابا متعلقا بالصلح يبدأ من الفصل 132 إلى الفصل 140، وقد توسع نوعا ما المشرع في مدلول الصلح بأن حوله من فضاء المحكمة المختنق إلى مجال أرحب بأن نص في الفصل 133 على ما يلي:

إن المشرع جعل من الصلح لحظة زمنية وجيزة داخل نمط قضائي صراعي، ولقد استعمل المشرع دلالة على أنها لحظة عابرة، عبارة "يحاول القاضي"، وفي المحاولة شرف كما يقال!

"يقصد بالصلح، حسب مدلول هذا القانون، الاتفاق المبرم بين المصاب بالحادثة أو ذوي حقوقه والمقاولة المؤمنة للمشغل من أجل تمكينهم من الاستفادة من المصاريف والتعويضات". بحيث إن المحكمة في بنيتها العامة تتميز بحقيقة عنيفة دالة على الصراع لا على الصلح، لا يكون للصلح سوى نصيب مقتضب ونمطي غير فاعل في إنتاج أثر بين المتنازعين. يصور الأديب العربي توفيق الحكيم في روايته يوميات نائب في الأرياف، حقيقة أن المحكمة مفصولة عن خصوصيات المتنازعين، بل المحكمة لا تطبق إلا النص في حدود الأمن القانوني والقضائي المزعومين جاء في مقتطف من الرواية ما يلي:

"قال القاضي: – أنت يا راجل متهم انك غسلت ملابسك في الترعة – يا سعادة القاضي ربنا يعلي مراتبك تحكم علي بغرامه علشان غسلت ملابسي – لأنك غسلتها في الترعة -واغسلها فين؟ فتردد القاضي وتفكر ولم يستطع جوابًا. ذلك أنه يعرف أن هؤلاء المساكين لا يمتلكون في تلك القرى أحواضا يصبون فيها الماء الصافي، فهم قد تركوا طول حياتهم يعيشون كالسائمة، ومع ذلك يطلب إليهم أن يخضعوا إلى قانون قد استورد من الخارج على أحدث الطراز، والتفت القاضي وقال إلي:  النيابة.  النيابة ليس من شأنها أن تبحث أين يغسل هذا الرجل ملابسه، ولكن ما يعنيها هو تطبيق القانون! فأشاح القاضي بوجهه عني ثم هز رأسه وقال في سرعة من يزيح عن كاهله حملا: – غرامه عشرين. غيره".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.