شعار قسم مدونات

الإنسان المهزوم.. ضحايا الإعلام والدعاية

مدونات - تلفزيون

في عشر مايو عام ١٩٣٣ اجتمع أربعون ألف شخصا للاستماع إلى وزير الدعاية الألماني جوزيف جوبلر Joseph Goebbles وكان يتحدث في ميدان يدعى الأوبرا في برلين، حيث جمع من كل نواحي برلين الكتب التي ألفها كتّاب من مختلف التوجهات والجنسيات لكنهم يختلفون عن النازية، وتكونت الكتب المحروقة مؤلفات اليهود واليساريون ومحبي السلام والأجانب والألمان الذي ناصرو قضايا الحريات والديمقراطية، حيث بدأ الجمهور حرق تلك الكتب، وكان هدف هذا الحرق تطهير المكتبات من كل هذه الكتب وما شابهها من الكتب المحظورة. كان من بين تلك الأعمال المحروقة أعمال الشاعر والكاتب الألماني هاينرش هاينه Heinrich Heine، ومن بين العبارات المحروقة تلك العبارة التي تقول "حيث يحرقون الكتب، سيقومون بالنهاية حرق البشر".

عندما يتم إقصاء المخالف، فإنه بالفعل خطوة نحو تزييف الوعي والتحكم بالعقل، وقد استطاعت وزارة الإعلام النازية بالسيطرة على المجتمع الألماني كاملا، وتسويق سياسات الحزب النازي. من أهم سياسات وزارة الدعاية الألمانية سياسة تكرار الكذب، حيث هناك مقولة شهيرة لجوزيف جوبلر "إكذب حتى يصدقك الناس" وتمثل هذه السياسة أكثر تكتيكه إعلامية تخدع الجمهور ولا تزال.

يعتبر جوزيف جوبلر المؤسس الفعلي لمدرسة البروباغندا الإعلامية وهي مدرسة تهتم بتسويق السياسات وتزيف الحقائق وتسعى إلى تحويل المواد الإعلامية إلى دعاية سياسية تخدم مصالح الحزب والزعيم. لا تستغرب إذا رأيت الأنظمة الدكتاتورية وهي تهتم بالفن والإعلام، لأنها بالفعل كما يقال دائما سلطة رابعة. وأداة مهمة في فرض السيطرة والتحكم بالبشر.

لو فرضنا جدلا أن معظم المؤسسات الإعلامية التي تعمل بصورة أخلاقية وتلتزم المهنية، فإن مسالة الانحياز ستطل قائمة، لأن الإنسان كائن منحاز، والحياد للأسف صار ما يعرف "بالكذب الأبيض" فالكل يسعى إلى فرض توجهاته.

أما في القرن الحادي والعشرين لا تزال المؤسسات الاعلامية تمارس التزييف ولا تزال الأنظمة السياسية تستخدم الدعايات لتسويق نفسها بأنها أنظمة أخلاقية، فهناك في كل المستويات تزييف إعلامي تمارسه الأنظمة السياسية في مختلف توجهاتها الأيديولوجية، فالأنظمة الدكتاتورية وهي التي أسست فعليا ما يعرف بالإعلام الحكومي الذي يتحدث باسم الحكومة ويقدم صباحا ومساءً إنجازات الحكومة، والغرض من هذا هو تبرير وجودها غير الشرعي من جهة وتمرير سياساتها من جهة أخرى، وأكثر من ذلك تسعى الحكومات والمؤسسات الإعلامية تشكيل وعيا سياسيا واجتماعيا يخدم مصالحها، وبالتالي فالكذب والتزييف والتكرار، يجعل الناس يعتقدون الكذب حقيقة، والجهل معرفتا، والخوف أمنا، والحرب سلاما، والخضوع حريتا.

في سلوك غير بعيد من هذا السلوك الاعلامي، تمارسه الأنظمة السياسية التي توصف بالديمقراطية حيث توظف مؤسساتها الإعلامية الضخمة في تمرير أجنداتها وتهيئة الأوضاع المناسبة لتحقيق مصالحها، فأصبح التصور البديل عن الديمقراطية كما يقوله نعومي تشومسكي "هو منع الجماهير من إدارة شؤونهم وإبقاء الإعلام في تحت هيمنة صارمة وضيقة، ربما يبدو هذا منافي للديمقراطية ولكن من المهم أن يدرك المرء أن هذا هو المفهوم السائد للديمقراطية". فالكذب والتلاعب بالأخبار سياسة إعلامية تمارسها المؤسسات الإعلامية العالمية، وذلك في توجيه رأي العام وصناعة وعيهم من جديد. وهذا هو هدف الإعلام.

فصناعة الرأي وهندسته هو مهمة الإعلام، حيث يقوم بقلب الحقائق عن طريق تزوير الأخبار واستخدام الدعايات وبالتالي تعيد تشكيل سلوك الأفراد، من حالة إلى حالة. ومن التأثيرات الإعلامية الرهيبة ذلك التأثير الذي تركه مشروع كريل Careel وهو مشروع دعائي قامت به الحكومة الأمريكية عام ١٩١٦ حيث نجح هذا المشروع في تحويل المجتمع الأمريكي في غضون ستة شهور من شعب هادئ إلى شعب هستيري يتاجر بالحرب ويروج لها.

ونحن فعلا ضحايا الإعلام والدعايات والتسويق؛ فالمؤسسات الإعلامية لم تكتفي أن تصنع توجهاتنا السياسية فحسب بل اتجهت إلى صناعة أذواقنا ورغباتنا الاقتصادية والاجتماعية، وساذج من يعتقد أن المؤسسات الاعلامية بريئة تلتزم بحد أدنى من المستوى الأخلاقي في عرض الحقائق والدفاع عنها، لأن الحق في ذاته قوة قادرة على الإقناع. ولا تبدو براعة المؤسسات الإعلامية من هذا المنوال، بل تظهر براعتها كما يقوله تشومسكي "في صرف أنظار الناس عن صميم المشكلات وفي طمس الحقائق واختلاق البدائل، وتزيينها في أعين الناس، لتغيير قناعاتهم حولها".

دائما يستهدف الإعلام الجماهير لترويضهم وترهيبهم وكل ذلك لأجل توجيه فكر الجماهير، فتصنع المؤسسات الإعلامية أخباراً أو تقوم بلصق صور وأحداث مع بعضها، حتى توجه شعور الجماهير وأفكارهم، هكذا فعلت بريطانيا في الحرب العالمية الثانية عندما عرضت مجموعة من صور أشلاء وضحايا لكنها غير حقيقيه.

نحن أمام مؤسسات ضخمة تملك أموالاً هائلة تسعى إلى خلق توجهاتنا وتسعى إلى تحديد نمط تفكيرنا، بل تحدد أذواقنا، فينبغي علينا أن نضع مسافة معقولة بين وعينا وبين المواد الإعلامية.

الهدف الأخير هو صناعة التاريخ، وإعادة كتابته من جه أخرى، فعندما حرقت النازية الكتب، المهمة كانت تنظف الوعي الجماهيري من الأفكار الأخرى، لتدخل النازية مكانها. كذلك يسعى الإعلام الكاذب إلى خلق تاريخ جديد هو تاريخه وتاريخ أمجاده، أي بالفعل هو صناعة تاريخ مزيف.

ولو فرضنا جدلا أن معظم المؤسسات الإعلامية التي تعمل بصورة أخلاقية وتلتزم المهنية، فإن مسالة الانحياز ستطل قائمة، لأن الإنسان كائن منحاز، والحياد للأسف صار ما يعرف "بالكذب الأبيض" فالكل يسعى إلى فرض توجهاته لهدف تشكيل وعي الجماهير وتوجيه مشاعرهم وأفكارهم، سلبا أو إيجابا، وهذه قضية أخرى. فالمهمة هو كيف يمكننا أن نفرق بين الخبر المزيف والتحليل الكاذب، من الخبر الصحيح والتحليل المنطقي؟

نحن أمام مؤسسات ضخمة تملك أموالاً هائلة تسعى إلى خلق توجهاتنا وتسعى إلى تحديد نمط تفكيرنا، بل تحدد أذواقنا، فينبغي علينا أن نضع مسافة معقولة بين وعينا وبين المواد الإعلامية، ونكون واعين ما ينشره الإعلام وما يرافقه من دعايات، وأن نكون أكثر منطقيين في فهم غاية الإعلام، وبالتالي يجوز لنا أن نشكك فيما يقال في الإعلام لأن حتى الصدق لم يعد صدقا مجردا، بل ينطوي في داخله أشياء أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.