شعار قسم مدونات

المحافظات التركية الناشئة والنهضة التقنية

blogs المحافظات التركية الناشئة والنهضة التقنية

اعتبر ستيف جوبز (Steve Jobs)، عندما سُئل عن أسباب نجاح شركة آبل في 2010، أن عمل الشركة بمبدأ الشركات الناشئة ساهم بنسبة كبيرة جدًا في هذا النجاح. نفس الأمر أيضًا أشار إليه أحد مُهندسي شركة أمازون قائلًا إن الرئيس التنفيذي فيها يؤمن بضرورة العمل بذلك النهج أيضًا.

 

العمل بمبدأ الشركات الناشئة يعني العمل بأقل الموارد وبالسرعة المُمكنة لتحويل الفكرة إلى نموذج حقيقي ملموس يُمكن تقييمه قبل تحويله إلى مُنتج يُمكن الاستفادة منه. ولهذا السبب أصبح الجميع في الوقت الراهن يختار "شركة ناشئة" كوصف لمشروعه الجديد، ظنًا منه أن التسمية لوحدها تكفي.

 

لسنا بصدد الحديث عن آلية العمل في الشركات الناشئة، فالتقارير حول هذا الأمر كثيرة جدًا. لكن الأهم هو آلية الاستفادة من تلك التجارب على الصعيد الحكومي، ولنا في التجربة التركية خير مثال، حيث تُعتبر من أكثر البلدان التي تُعاني من البيروقراطية من جهة، وأكثرها انفتاحًا على التقنية من جهة أُخرى.

 

تركيا بشكل عام بلد مُقسّمة إلى مُحافظات. ولكل مُحافظة بطبيعة الحال والي أو قائم بالأعمال مع هيئات كاملة للإشراف على سير الأمور فيها. داخل كل مُحافظة هناك مجموعة من المناطق الرئيسية التي تُشرف عليها أمانة البلدية، أي أن كل منطقة تُدار بواسطة بلدية مُخصّصة.

 

تقنيًا، وفي محافظة أنطاليا على سبيل المثال، يُمكن للفرد استخدام تطبيق للدفع إلكترونيًا أثناء استخدام وسائل النقل العامة. كما يُمكن تعبئة بطاقة وسائط النقل عن طريق الإنترنت

هذا التقسيم الإداري روتيني وموجود في جميع البلدان حول العالم، فلا جديد في ذلك أبدًا. لكن الجميل في آلية عملها هو المنافسة. هناك مُنافسة بين بلدية كل منطقة، أي أن رئيس البلدية بعد انتخابه يقوم بتحويل وعوده إلى حقائق، وهو شيء ملموس لأن الدولة تُشرف على ذلك وتقوم أيضًا بتسليم جوائز سنوية لأفضل بلدية داخل المحافظة، دون نسيان جوائز أفضل مُحافظة كذلك.

 

كما وتُشارك تلك البلديات في مُسابقات على مستوى العالم، بحيث يفخر رئيس البلدية باحتلال بلديّته لمرتبة ما على مستوى أوروبا أو على مستوى العالم. وهذا يعكس بدوره جهود حقيقية تجري على أرض الواقع بعيدًا عن الشعارات الطنّانة التي اعتدنا عليها.

 

النقطة الهامّة في تلك الجهود هو أن البلديات تعمل بمبدأ الشركات الناشئة، أي أنها قادرة على الحركة بالاتجاه الذي تجده مُناسبًا طالما أنه لا يتعارض مع قوانين الدولة.

 

في إحدى البلديات ضمن محافظة ما ستجد صناديق في الشوارع لترك الملابس الفائضة الموجودة لدى العائلات من أجل تقديمها للمُحتاجين. لكن وبالانتقال إلى حي مُجاور في نفس المدنية، قد لا تجد نفس الصناديق. وما هذا سوى مثال بسيط -قبل الانتقال إلى الأمثلة التقنية- على تفرّد بعض البلديات عن غيرها حتى لو كانوا بنفس المحافظة.

تقنيًا، وفي محافظة أنطاليا على سبيل المثال، يُمكن للفرد استخدام تطبيق للدفع إلكترونيًا أثناء استخدام وسائل النقل العامة. كما يُمكن تعبئة بطاقة وسائط النقل عن طريق الإنترنت. مع العلم أن الأمر ذاته غير موجود في اسطنبول، أي أن المواطن لا يُمكنه إخراج هاتفه وتقريبه من الجهاز الموجود لتحصيل الأُجرة.

 

واستمرارًا بالحديث عن اسطنبول، فإن بلدية إسطنبول، أو الجهة القائمة على المحافظة قامت بجهود تقنية خُرافية من وجهة نظر شخصية، فالمشكلة الرئيسية في هذه المدينة هي الازدحام طوال الوقت. ولكن ولأن عقلية الشركات الناشئة موجودة، يُمكن فتح تطبيق بسيط ومعرفة حالة الطُرقات بشكل فوري، وهذا الكلام ليس حديث العهد، بل ظهر قبل ثلاثة أرباع العقد تقريبًا، أي قبل أن تتوسّع خدمات مثل خرائط غوغل أو ياندكس الروسية.

 

في مُعظم الدول، شعر سائقو سيّارات الأجرة بالخطر من تطبيقات النقل التشاركي. وشعرت الدولة أيضًا بالخطر لأن النموذج الربحي لسيّارات الأُجرة عظيم جدًا، فهي تحصل على ضرائب عند شراء السيّارة، وضرائب سنوية لتشغيلها كسيّارة أُجرة

مُشكلة أُخرى موجودة تمثّلت في عمل شركات مثل أوبر للنقل التشاركي، وهي مُشكلة أصابت مُعظم البلدان التي وصلت إليها تلك الشركات الناشئة. عدم جهوزية قوانين الدولة أحد الأسباب التي منعت شركات النقل التشاركي من العمل. لكن تلك الشركات نجحت بفضل الحلول التي قدّمتها لسيّارات الأجرة العامّة التي تتمثّل بمكان التواجد أولًا، وطرق الدفع ثانيًا، وأخيرًا الأمان.

 

بلدية اسطنبول منعت أوبر من العمل بالفعل، وفرضت غرامات على الراكب وعلى السائق كذلك. لكنها لم تقف مكتوفة الأيدي، فهي حلّلت أسباب نجاح ذلك النوع من الشركات لتقوم فورًا بتبنّيه -على مستوى اسطنبول حتى الآن- لتُطلق ما يُعرف بـ "آي تاكسي" (iTaksi).

 

باختصار، يُمكن الآن لسائقي سيّارة الأُجرة الحفاظ على وظائفهم عبر هذا التطبيق لأنهم وبعد التسجيل فيه سيتم التأكّد من هوّيتهم وتسجيلهم في الدولة، وهذه طبقة أمان. كما يُمكن من خلال التطبيق طلب السيّارة ومعرفة مكانها قبل التوجّه إليها، مع إمكانية الدفع إلكترونيًا والتخلّص من الحاجة لحمل النقود والدفع بشكل نقدي.

 

في مُعظم الدول، شعر سائقو سيّارات الأجرة بالخطر من تطبيقات النقل التشاركي. وشعرت الدولة أيضًا بالخطر لأن النموذج الربحي لسيّارات الأُجرة عظيم جدًا، فهي تحصل على ضرائب عند شراء السيّارة، وضرائب سنوية لتشغيلها كسيّارة أُجرة. دون نسيان ضرائب المحروقات.

 

لم تنتظر بلدية إسطنبول حتى إقرار قانون في الدولة لتنظيم عمل تطبيقات النقل التشاركي، بل قامت هي بنفسها بتحليل عوامل النجاح وتكرارها في نموذج مُرخّص ويعمل دون مشاكل

لكن في تركيا، لم تتعامل البلديات بعقلية المُتحجّر الموجودة في مُدن مُختلفة حول العالم. بل قام المسؤولون بتحليل عوامل نجاح تلك التطبيقات وعوامل الإقبال عليها، ليقوموا الآن بتبنّيها بشكل رسمي ضمن نموذجهم الرابح الذي أصبح يُقدّم قيمة للمواطن من جهة، ويحمي السائق من جهة أُخرى، فدفع اشتراك سنوي للدولة سيشعره أنها بالفعل تهتم لأمره وليست مُجرّد عامل آخر ينهش في لحمه. أو على الأقل هذا ما يُمكن للناظر من الخارج ملاحظته.

 

خُلاصة الحديث، لم تنتظر بلدية إسطنبول حتى إقرار قانون في الدولة لتنظيم عمل تطبيقات النقل التشاركي، بل قامت هي بنفسها بتحليل عوامل النجاح وتكرارها في نموذج مُرخّص ويعمل دون مشاكل.

 

نفس الأمر كرّرته سابقًا في معرفة حالة الطُرقات، فتشغيل سيّارات غوغل في البلد، أو الاعتماد على الأقمار الاصطناعية، أو حتى تتبّع نشاط المُستخدمين أمور لم تكن مدعومة في تركيا. لكن بوضع مُستشعرات بسيطة لمراقبة حالة الطُرقات تمكّنت الجهة المسؤولة عن اسطنبول من تقديم قيمة للفرد هناك ومساعدته قدر الإمكان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.