شعار قسم مدونات

العنف والحداثة

blogs - isis
عالجت في مقال سابق مفهوم "العنف المشروع" وأن ظاهرة العنف التي نشهدها إنما نشأت في ظل الدولة القومية وأن تلك الجماعات تتنافس مع هذه الدولة على ممارسة العنف الذي يدعي الطرفان أنه "مشروع". وفي هذا المقال سأسعى إلى شرح العلاقة بين العنف والحداثة ومعنى كونه ظاهرةً حديثةً.

سبق لعدد من الكتاب أن أشاروا إلى هذا الربط بين حركات الإسلام السياسي عامة والحداثة على عكس ما هو سائد من ربطها بالتراث أو أنها معادية للحداثة. ومن أوائل من أشار إلى هذا الربط دلال البزري التي أشارت (1996) إلى اقتباس هذه الحركات من الحداثة وإلى مصادرة "الإسلاميين" لبُنى حداثية و"تعميدها" بصيغ إسلامية، ثم بعد أحداث سبتمبر 2001 كتب جون غراي كتابًا (2003) اعتبر فيه تنظيم القاعدة وليدَ الحداثة السياسية من حيث كونه يستخدم الوسائل الحديثة وكونه منظمة أممية، ومن حيث أشكال التنظيم التي يتبعها، والتصورات الأيديولوجية المضمرة والمعلنة، وأن توسله بالإرهاب لتحقيق مآرب سياسية لا يختلف عن الحركات الثورية والفوضوية الغربية التي تتحدى احتكار الدولة لاستعمال العنف، كما أن الأهداف التي اختارها تنظيم القاعدة في 2001 عكست مصادر القوة والنفوذ في عصر العولمة، وزاد "غري" على ذلك أن مناهج تأويلهم للتعاليم والنصوص ليست بعيدة عن مناهج التأويل والتحليل الحديثة.

وكتب كيفن ماكدونالد مقالاً (2014) بعنوان: "جهاديو تنظيم الدولة الإسلامية ليسوا نتاج القرون الوسطى ولكن نتاج الفلسفة الغربية"، دعا فيه إلى فهم تنظيم الدولة الإسلامية انطلاقًا من التاريخ الأوروبي الحديث وليس بالعودة إلى التراث الإسلامي، فـ"الدولة الإسلامية" المستندة إلى فكرة "الحاكمية" (أي أن الله هو الحاكم المطلق والسيد الفرد) تتأسس على مفاهيم الدولة الحديثة التي شهدها القرن السابع عشر والتي أسست لنظام وستفاليا سنة 1648م.

ربط مثل هذه الحركات ذات الأيديولوجيا السياسية بما قبل الحداثة مفيدٌ في شرعنة الحرب عليها أو إضفاء أبعاد تفسيرية للحرب عليها بما أنها من خارج
ربط مثل هذه الحركات ذات الأيديولوجيا السياسية بما قبل الحداثة مفيدٌ في شرعنة الحرب عليها أو إضفاء أبعاد تفسيرية للحرب عليها بما أنها من خارج "النظام" وخارجة عليه في الآن نفسه.

أما يورغن هابرماس فقد رأى في حوار معه بعد أحداث عنف باريس (2015) أن الدين لا مدخل له في ممارسات الأصولية الجهادية بالرغم من أنها تستخدم لغة دينية؛ لأنه يمكن لها أن تستعمل أي لغة دينية أخرى في مواقف مغايرة، فالأديان الكبرى في العالم لها جذور عميقة في التاريخ، أما "الجهادية فهي صيغة حديثة لرد الفعل على اقتلاع سبل الحياة"، ويمكن أن نجد مثل هذه الأفكار في كتابات أخرى ككتابات طلال أسد وغيره، كما أن نقد طه عبد الرحمن لفكر وتصورات حركات الإسلام السياسي السنية والشيعية عن الدين والسياسة يعكس ضمنيًّا القول: إنها حركات حديثة أو متورطة في الحداثة بهذا القدر أو ذاك.

إن ربط مثل هذه الحركات ذات الأيديولوجيا السياسية بما قبل الحداثة أو القول: إنها حركات ما قبل حديثة مفيدٌ في شرعنة الحرب عليها أو إضفاء أبعاد تفسيرية للحرب عليها بما أنها من خارج "النظام" (the system) وخارجة عليه في الآن نفسه. ولكن هذه الحركات الإسلامية سلميةً كانت أم عنيفةً إنما ظهرت في الأزمنة الحديثة؛ فهي حركات شكّلت شكلاً من أشكال التلاؤم مع الدولة الحديثة وإن كان بعضها صريحًا في العداء للحداثة، فالدولة الحديثة لديها نزوع دائم لتشكيل الأفكار وإدارة الناس في حياتهم وموتهم، وأجزاء من هذا كانت من اختصاص جهات أخرى في التاريخ الإسلامي في مرحلة ما قبل الدولة الحديثة وتنظيماتها الضابطة (الفقهاء والقضاة وأصحاب الأصناف والصنائع وتشكيلاتهم..).

وسبق لي أن رصدت ثلاثة أشكال من الاستجابة للحداثة ممثلةً بفكرة الدولة، وهي ما أسميته بالفقيه التقليدي، والفقيه الحركي، وفقيه الجهاد (انظر كتابي: مأزق الدولة، 2016) حيث إن جميعهم يراهن على الدولة بشكل مركزي كأساس للسلطة ومصدر للضبط والتشريع واتخاذ القرار بطرائق إما كانت غير مقننة قبل الدولة الحديثة أو كانت مَنوطة بأطراف أخرى كالفقهاء والمفتين والقضاة وغيرهم، فلما جاءت الدولة الحديثة استولت على تفاصيل هذه الشؤون وتجاوبت معها تلك الحركات في مشاريعها ورؤاها وإن اختلفت مرجعياتها وأفكارها.

بل إن مطلب تحكيم الشريعة -وهو القدر المشترك بين عامة حركات الإسلام السياسي السلمية والعنيفة- هو أحد أبرز تجليات حداثة هذه الحركات التي حولت الشريعة إلى ما يشبه القانون في الدولة الحديثة متجاوزةً في ذلك التجربة الإسلامية المديدة في أن الشريعة لم تكن قانونًا بالمعنى الحديث، فهي أبعد وأعمق من فكرة القانون القائم على سلطة القهر والضبط السلطوي ونظام العقوبات المادية، فالشريعة في التجربة التاريخية أشدُّ تعقيدًا من ذلك، ولا يمكن اختزالها في الأبعاد السلطوية والقهرية، فهي -في الأساس- تقوم على فكرة الامتثال الطوعي، كما أنها متحركة وممتزجة بالتجربة التاريخية وليست فعل السلطة بل فعل المجتمع، وهي شديدة التنوع فلا يمكن اختزالها بفكرة الإلزام القانونية، كما أنها لا تسعى إلى ضبط ظواهر الناس وسلوكياتهم ولكنها تسعى إلى تعبيدهم ظاهرًا وباطنًا لله، أي أن فكرة العقاب الدنيوي فيها ثانوية ولا تتعلق إلا بمنظومة الحقوق التي لها تَعَلق بالناس أو بالحق العام/المجتمع، ووفق فلسفة تشريعية خاصة.

الحركات الإسلامية عامةً هي حركات حديثة من جهة المراهنة على الدولة كسلطة مركزية، ومن جهة استعارة التقنيات والوسائل والمفاهيم والصيغ الفكرية، فعدد من مشروعاتها وافتراضاتها مأخوذ من السياسات الحديثة.
الحركات الإسلامية عامةً هي حركات حديثة من جهة المراهنة على الدولة كسلطة مركزية، ومن جهة استعارة التقنيات والوسائل والمفاهيم والصيغ الفكرية، فعدد من مشروعاتها وافتراضاتها مأخوذ من السياسات الحديثة.

وإذا كان البعد الأخلاقي ثانويًّا في قانون الدولة الحديثة فإن القانوني والأخلاقي متلازمان في الشريعة، ولا يمكن للأخلاقي أن يتخلف أو يتأخر، ولذلك هي قائمة على فكرة الأجر والثواب والعقاب الأخرويّ أصالةً، وتخاطب أفعال المكلفين أفرادًا وجماعاتٍ في خاصة أنفسهم وفي علاقاتهم فيما بينهم وبمحيطهم إلى غير ذلك مما لا مجال لبسطه هنا.

فالحركات الإسلامية عامةً هي حركات حديثة من جهة المراهنة على الدولة كسلطة مركزية، ومن جهة استعارة التقنيات والوسائل والمفاهيم والصيغ الفكرية، فعدد من مشروعاتها وافتراضاتها مأخوذ من السياسات الحديثة، صحيحٌ أن لديها مكونات وإحالات تراثية كثيفة ولكن استعادتها لتلك المكونات هي استعادة حديثة بما هي استعادة تأويلية في سياق حداثيّ، فاقتباساتها وشواهدها وتصوراتها هي نتاج عملية تأويل حديث وإن ادعت أنها وفية للتقليد أو أنها تريد استعادته، ولكنها مفارِقة له بل خارجة عليه وهو ما شرحته من خلال أطروحتي المركزية وهي فكرة "النظام الفقهي" التي أوضحتها في كتابَي: مأزق الدولة (2016)، والعنف المستباح (2017).

يبقى أن أي توصيف لهذه الحركات مرتهنٌ لكيفية تحديد جملة من المفاهيم المركزية، كمفاهيم: الدين والتقليد والحداثة. فهل الدين مفهوم نظريٌّ أم واقعة تاريخية واجتماعية ولها جوانب قانونية ووجوه محلية وسياسية واقتصادية.. (العناصر التي يتم تركيبها لتكوّن "الدين") كما يرى الأنثروبولوجي طلال أسد؟ وإذا كانت الدولة (الكائن السياسي الحديث) ترى أن تعريف وتحديد الوجه العام المقبول للدين هو من صميم عملها، فإن الحركات الإسلامية السياسية السلمية والعنيفة تطمح إلى الشيء نفسه عبر تحويل الشريعة إلى قانون كما سبق.

ثم إن كنا سنحيل هذه الحركات إلى التقليد الإسلامي التاريخي فهل التقليد اكتملت صياغته منذ زمن بعيد (أي أنه جوهرٌ ويصبح الدين هنا مفهومًا نظريًّا ثابتًا) أم أنه جوهر متغير يجمع بين الثوابت والمتغيرات والمقاصد والوسائل ومن ثم فهو يخضع على الدوام إلى عمليات التلاؤم وإعادة التشكيل بوصفه ظاهرة اجتماعية لها جوانب متعددة ومركبة؟ وحين نقول: إنها حركات حديثةٌ فهل الحداثة مسار حتمي مستقيم لكل الناس أم أنها تحقيب تاريخيٌّ محدد أم أنها ظواهر مؤقتة؟ إن كل هذه التساؤلات والإشكالات تؤثر في طريقة تشخيصنا لتلك الحركات وغيرها وتلقي بثقلها على عملية التحليل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.