شعار قسم مدونات

هُوِيَّة الجزائر والشمال الإفريقي

blogs - خريطة الجزائر
شَعْـبُ الجـزائرِ مُـسْـلِـمٌ *** وَإلىَ الـعُـروبةِ يَـنتَـسِـبْ
مَنْ قَــالَ حَـادَ عَنَ اَصْلِـهِ *** أَوْ قَــالَ مَـاتَ فَقَدْ كَـذبْ
أَوْ رَامَ إدمَــاجًــا لَــهُ *** رَامَ الـمُحَـال من الطَّـلَـبْ

هذه الأبيات ضمن قصيدة يحفظها كل الجزائريين منذ نعومة أظافرهم في المقررات الدراسية أو في سائر الفعاليات التي تُقِيمها منظمات المجتمع المدني والجمعيات الدينية والكشافة الجزائرية وغيرها، وصاحب القصيدة هو الإمام الأمازيغي عبد الحميد بن باديس -رحمه الله تعالى- أحد أشهر الأعلام في جزائر القرن العشرين، حيث بدأت تتبلور فكرة الدولة الوطنية، لكننا إذا رجعْنا بالتاريخ مائة عامٍ إلى ما قبل العصر الذي عاش فيه ابن باديس سنجد أنفسنا في أواخر الحكم العثماني لمساحة كبرى جدا من الشمال الأفريقي كانت تضم من أقصى الشرق الليبي (طرابلس الغرب قديمًا) حتى حدود المملكة المغربية والتي لم تكن ضمن حكم دولة آل عثمان للعالم الإسلامي، في تلك الحِقبة كان مواطنو هذه الرقعة الجغرافية ينتمون لخلفية واحدة هي "الدولة الإسلامية" أو "الخلافة" كما يمكن تسميتها بالاصطلاح التاريخي لوصف الدول التي حاولت توحيد المناطق والأقاليم الإسلامية في المشرق والمغرب.

هذا الانتماء هو السائد آنذاك مع أن العِرقيات التي كانت تسكن هذه المناطق هي نفسها الموجودة حاليا: العرق الأمازيغي، والعربي والتركي وغيرها من الأعراق وتقريبًا بنِسب متقاربة بين القديم والحديث إلا أن العنصر التركي إما أن أبناءه هاجروا إلى مواطنهم الأصلية في بلاد الأناضول أو بقوا هنا ليستعملوا اللهجات الدارجة ويكوِّنوا فيما بعدُ العنصر الكرغلي، وأما العنصر اليهودي فأغلبهم جرى ترحيلهم بعد تكوين دولة الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين إثر السقوط النهائي للدولة العثمانية والإعلان عن وعد بلفور ويليه جرائم العصابات الصهيونية في بلاد الشام آنذاك.

وعلى أي حال؛ بقي التفاعل بين العنصرين العربي والأمازيغي تماما كما كان في الحقبة العثمانية بل وكما كنا نعرفه تاريخيا منذ الفتوحات الإسلامية للشمال الأفريقي في القرن الأول من التقويم الهجري أي منذ نحو 14 قرنًا من الزمن، والعرب الفاتحون حين حملوا رسالة الإسلام لم يفرضوا على السكان الأصليين لغةً أو نمط معيشة معينًا، غير أني أريد التركيز على أمر مهم في أصل السكان القدامى لشمال أفريقيا عشية الفتح الإسلامي، فالأمازيغ لم يكونوا المكوِّن الوحيد لشعوب هذه المنطقة بل كانوا جزءًا ضمن مجموعة اعراق مختلفة جدا من بينها الكنعانيين الذين أسسوا إمبراطورية قرطاج. أفريقيا

القاعدة الأمازيغية الشعبية لا تتعامل مطلقا مع حرف التافيناغ القومي، وهذا ما يجعلهم وجها لوجه أمام الحرف اللاتيني الذي يمثل إحدى أهم صور الاحتلال الفرنسي لبلدان شمال أفريقيا.
القاعدة الأمازيغية الشعبية لا تتعامل مطلقا مع حرف التافيناغ القومي، وهذا ما يجعلهم وجها لوجه أمام الحرف اللاتيني الذي يمثل إحدى أهم صور الاحتلال الفرنسي لبلدان شمال أفريقيا.
 

يقول المؤرخ الجزائري عثمان سعدي في مقالة له بعنوان (سكان شمال أفريقيا: الأصول الحضارية1) منشورة بموقع هسبريس Hespress بتاريخ (الأربعاء 26 نوفبر 2014) "لقد حدثت هجرات قحطانية من جنوب الجزيرة العربية قبل آلاف السنين، والذي سجله التاريخ هجرة الكنعانيين الفينيقيين في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد"، ويضيف عن التزاوج الحضاري بين الأمازيغ والكنعانيين: "وأسسوا إمبراطورية قرطاج الذي يعتبر تأسيسها تزاوجا بين الكنعانيين والأمازيغ، فهي إمبراطورية كنعانية أمازيغية، فملحمة حنّا بعل العابرة لجبال الألب ساهم فيها الأمازيغ، فقد كان سلاح الفرسان بجيشه أمازيغيًّا، يقوده الفارس الأمازيغي مهر بعل"، فالعنصر العروبي موجودٌ قبل الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا وحتى قبل ظهور الإسلام في مكة المكرمة وجزيرة العرب.

وهذا الأمر يؤكده مجموعة من المؤرخين الأوروبيين أمثال Gabriel Camps في كتاب له بعنوان: "البربر: ذاكرة وهُويَّة"، كما أن اللغة الرسمية التي استمرت قرونًا في الانتشار بين أرجاء هذه الرقعة لم تكن هي الأمازيغية بل كانت اللغة البونيقية أو القرطاجية -وهي مستقاةٌ من الفينيقية- التي لم تندثر إلا عند الاحتلال الروماني وتدميرهم لمدينة قرطاج، وبعدها ظهرت لهجات متأثرة باليونانية وغيرها، والمقصود هو ما يؤكده كثيرٌ من المؤرخين أن ما يسمى اليوم باللغة الأمازيغية لم تكن يومًا لغةَ حضارة أصلا بل كانت لهجات شفوية مختلفة اختلافا شديدا لدرجة أن المتحمسين حاليا للغة الأمازيغية يجدون حرجا كبيرا في ضبط الألفاظ والقواعد فضلا عن تنازعهم في الحرف الذي يكتبون به لغتهم هذه أهو التافيناغ أم الحرف العربي أم اللاتيني الذي يبدو هو الخيار الحتمي بما أن الجهات المتحمِّسة تتلقى دعما كبيرا جدا من الدولة الفرنسية التي تحاول الاستثمار في هذه القضية العِرقية لمزيدٍ من التفتيت والتقسيم في شمال أفريقيا، والجهة التي تسعى لتوطيد هذه اللغة -وهي المحافظة السامية للغة الأمازيغية- تواجه معضلات كبيرة أهمها:

الذي يريد فرض رؤية أحادية على هذه المنطقة لن يبوء إلا بالفشل الذي باءت به فرنسا بكل جيوشها وقواتها طيلة أكثر من 130 سنة من الاحتلال.

– أن القاعدة الأمازيغية الشعبية لا تتعامل مطلقا مع حرف التافيناغ القومي، وهذا ما يجعلهم وجها لوجه أمام الحرف اللاتيني الذي يمثل إحدى أهم صور الاحتلال الفرنسي لبلدان شمال أفريقيا، وفعلا فالمحافظة السامية للأمازيغية تنشر موقعها باللغة الفرنسية أساسًا ما عدا بعض العبارات المكتوبة بحرف التافيناغ الذي يبدو مادة إشهارية لا تعليمية ولا إعلامية.

– الاختلاف الجوهري الموجود بين اللهجات التي يصفونها بالأمازيغة يجعل من الصعوبة بمكان "خلق" لغة موحدة، فهناك اللهجة القبائلية والشاوية والميزابية والشلحة والتارقية (لغة طوارق الجزائر) فضلا عن لهجات أخرى منتشرة في ليبيا وتونس والمملكة المغربية.
– إلغاء تاريخ كامل من عدة قرونٍ بما يحمله من حضارة وسياسة وحروب وثقافة وديانات لم يُكتب شيءٌ منها بالتافيناغ ولم يكن أصحابها يستعملون في التداول الرسمي هذه اللغة الأمازيغية، وإلغاء التاريخ هو سقطة حضارية لا يمكن للمنصفين القبول بها.

– حصر تاريخ شمال أفريقيا في ثنائية (أمازيغ أصليون – عرب محتلُّون)، وهذا بعيد كل البعد عن الواقع كما قدمتُ آنفًا، فهذه المنطقة غنية جدا بالتنوع العرقي.
– اعتماد الفرنسية لغةً شبه رسمية بين أقطاب هذا التيار يجعلهم عُرضة للنقد من الطبقات الشعبية وحتى النخب والأكاديميين وغيرهم.
– ما يردده مناصرو الأمازيغية من أن العرب عرّبوا سُكَّان المنطقة كما يفعل أي "احتلال" ليس حجة علمية صحيحة، لأن العرب قد انتقلوا إلى مناطق يسكنها الأتراك والفرس والروس والهنود وغيرهم فلماذا لم تتعرَّبْ تلك البلدان ولماذا لم تتعرب الشعوب الفارسية والتركية والهندية وغيرها؟ والتفسير الوحيد هو أن العرب الذين فتحوا شمال أفريقيا لم يصطدموا بلغة مخالفة للسانهم بل وجدوا قبلهم لغة عروبية مشابهة لأصول كلامهم وقواعده وأصواته.

في الأخير؛ هذا ليس دعوةً مني للقول بعروبية شمال أفريقيا بل الإنصاف يقتضي أن ندرك أن هذه الجغرافيا الواسعة لم تكن يومًا مِلْكًا لمجموعة عرقية بعينها، بل كانت مسرحا حضاريا تتمازج فيها حضارات الشرق والغرب بكل تفاعلاتها الإيجابية والسلبية، والذي يريد فرض رؤية أحادية على هذه المنطقة لن يبوء إلا بالفشل الذي باءت به فرنسا بكل جيوشها وقواتها طيلة أكثر من 130 سنة من الاحتلال الغاشم، ومع ذلك فهي لا تزال تستغل النزعات العرقية لإحداث انقسام مجتمعي كبير يمكنها من فرض الوصاية من جديد على بلادنا، وكما تسعى فرنسا لدعم القوميين الأمازيغ فقد دعمت ولا تزال تيار القوميين العرب منذ تأسيس النظام على يد الراحل هواري بومدين الذي سار مع تيار التعريب في المشرق وهو تيار حاول طمس كل الثقافات ما عدا الثقافة العربية، ولن يكون هناك من مخرج لهذا الاستقطاب العِرقي إلا القناعة بسياسة الانفتاح والتعايش من دون إقصاء أو استئصال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.