شعار قسم مدونات

في حضرة الذكرى (معركة حلب الأولى)

blogs حلب

في مثل هذا الأيام من عام ألفين وستة عشر، تحديداً الحادي والثلاثين من شهر تموز، بدأت المعركة، لقد مرّ وقت طويل منذ ذلك الوقت، يستحق فيه أن يفرد التاريخ بهذه الصيغة، لم يكن عاماً واحداً أبداً، فالزمان لا يقاس بالأيام أحياناً، وإنما يقاس بكثرة تقلباته وقسوتها،.. لقد كانت أياماً قاسية جداً تلك التي تلت هذه المعركة، وكأنها مئة عام. 

لا حصر للصور التي رافقت دماء الشهداء وأمانيهم، وتطلعات الثوار والمهجرين فيما بعد، تلك الصور التي بعثت الأمل، وقتلت اليأس، وأحيت مدينةً كاملةً بعد موتها، لتنظر إلى أبطالها كيف يعيدون صناعة المجد من جديد، وكأنّه لم يكن بعيداً عنها لحظةً واحدة. 

سحابة سوداء تملأ المكان، أطفال يركضون في الشوارع خلف الدواليب التي يحرقونها وتشحورهم، وهم ضاحكون فرحون بدورهم في المعركة، .. صيحات النصر التي تملأ الأرجاء، وتفيض بها مواقع التواصل الاجتماعي "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ"،.. مواويل البطولة التي يترنم بها المحاصرون في داريا والوعر والغوطة، آملاً بأن تحمل معركة حلب معها ما يقلب الموازين رأساً على عقب ويعيد الحقوق لأصحابها والثورة لمسارها. 

undefined

أخبار الانتصارات تتوالى، والمناطق المحررة تتزايد وحصون النظام تتهاوى، ويقترب لقاء الثوار على طرفي المدينة المحاصرة، والشباب يتسابقون لبذل مهجهم في هذه المعركة فقد تكون فتحاً يحول بينهم وبين الشهادة إذا لم يلحقوا به لينالوا شرفها. 

امتلأت القوائم، لا مزيد من المجاهدين، يتزاحم الشباب للمشاركة، نريد أن نفرح ببذل الدماء على طريق النصر، إنّه حقُّنا، حقّنا أن نفرح ببذل دمائنا في هذه اللحظات، ونحن من دفعها رخيصة في سبيل الحرية والوطن في أحلك الظروف وأصعب الأوقات.. دعاء الأمهات يملأ ما بين الأرض والسماء، وتكبير مآذن الجوامع يهزُّ أركان الباطل هزّا، ويدخل الطمأنينة إلى نفوس المؤمنين، نصرٌ من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين. 

(لقد مات اليأس في نفوسنا موتاً لا حياة بعده)، لم يعد كل خذلان الدنيا بإمكانه أن ينال من عزائمنا، نعم لقد فعلناها وكنا قادرين، وسنستطيع إعادتها يوماً، نحن من قرر النصر

كمية المشاعر التي كانت تحتضننا في تلك الأيام من الصعب أن توصف، الأرواح ترتعش فرحاً وحباً وكرامة، دموعٌ في كل مكان، ها قد حان قطافها، عناقٌ منتظر، وتراب يرتدّ إلى أهله معفراً بعطر الدماء الغالية، أصوات الشهداء تلح على الذاكرة، وأسماؤهم تزّين ساحات المعارك، وصورهم ماثلة أمام أعيننا،.. آهٍ لو كانوا هنا، كم هو قاسٍ أن تعيش الفرح في ديار من غابوا، وهم كل الروح وبقية القلب والوطن. 

في كلّ يوم كان الأمل يقترب من أن يكون حقيقة، وفي كلّ ساعة كانت كل هذه المشاعر تتّـقد دفعةً واحدة، إنّها الثورة التي حاربها كلّ العالم، إنّها تنتصر، وقد حصل ذلك، نعم، لقد رأينا النصر وفرحته بأمِّ أعيننا، ولكنه لم يكن سهلاً، ولم يكن طويلاً، على الرغم من أنه أتى بعد ستِّ سنواتٍ من الدماء التي سقت كل شبر من تراب هذا الوطن حتى ارتوى لمئة عامٍ قادمة، على الرغم من كل الوصايا التي تركها جميع من رحلوا، على الرغم من كل المعارك والرصاص والأسرى والدعاء والتكبير والعمل والتضحية، على الرغم من كل شيء، لم يدم الأمرُّ مدةً طويلة، لقد كان فقط بحجم الحلم الذي كنا نتداوله في نومنا الطويل، وأحاديثنا القصيرة، كان حلماً سرعان ما انقضى وعاد كل شيء كما كان، مضت أيّام النصر، ومضت أيّام الفتح، كما مضت المعركة، وعاد الحصار بكل ما فيه من قهرٍ وألم. 

لم يكن الأمر بهذه السهولة، كان إيماناً عظيماً بأنّ كلّ شيءٍ قد سار كما أردنا له أن يكون، ولكن ذلك الإيمان كان يأبى أن يكون حقاً كاملاً، كان هناك ما ينقصه، ربما كان نصرنا على قدر الإخلاص الذي تحلى به ذلك الإيمان الذي اعترانا، وسرعان ما اختلفنا، سرعان ما تقاتلنا، سرعان ما استطاعت شهواتنا أن تقفز لتستولي على كل تلك الأشياء الجميلة، ليدّعي كل فريقٍ أنه هو فقط من يملكها.. فأضعناها جميعاً، وضيّعنا حلب بعد فترة قصيرة جداً، لنخرج منها بذكرياتنا فقط، وكل الدروس التي يمكن لمنتصر أن يتعلّمها وقد عايش النصر لساعات قليلة، ورافقته الخسارة سبع سنواتٍ كاملة.

إننا نملك كل ذلك اليقين بعزيمة رجل من لم يبق لديه ما يخسره أبداً، وصلابة امرأة جرح قلبها عميقاُ جداً حيث لا يصل عشقٌ أو حزن، واثقون نحن بذلك النصر، واثقون بالعمل الذي لن نتوقف عنه أبداً
إننا نملك كل ذلك اليقين بعزيمة رجل من لم يبق لديه ما يخسره أبداً، وصلابة امرأة جرح قلبها عميقاُ جداً حيث لا يصل عشقٌ أو حزن، واثقون نحن بذلك النصر، واثقون بالعمل الذي لن نتوقف عنه أبداً

شيء واحد فقط لم نفقده نحن الذين عايشوا التجربة كلّها، هذا الشيء حملناه معنا في حقائبنا الصغيرة ونحن نخرج من مدينتنا التي عشقناها كالأطفال، كان الشيء الوحيد الذي أتى مع معركة النصر، ولم يغادرنا أبداً، (لقد مات اليأس في نفوسنا موتاً لا حياة بعده)، لم يعد كل خذلان الدنيا بإمكانه أن ينال من عزائمنا، نعم لقد فعلناها وكنا قادرين، وسنستطيع إعادتها يوماً، نحن من قرر النصر، ونحن فقط من استعجل الهزيمة، لقد تعلمنا من درس حلب كل شيء، وهذا هو النصر الذي لن يدركه أعداؤنا الآن، كانت معركة نصر كاملة، استمرت ستة أشهر كاملة، خسرنا فيها مدينة واحدة، ولكننا اليوم بكامل اليقين نراهن على استعادة الوطن كاملاً. 

المعارك مستمرة.. والميدان لمن يثبت حتى النهاية، ونحن.. جميع من على هذه الأرض، على الرغم من كل الخسارات المؤلمة حدّ الفجيعة، لم نهزم، ولازالت العزائم في فورتها الأولى تشحذ بنار الثورة، ودَين الدماء، وأمانة الوصايا، وصوت الرسالة، وعشق الوطن… لكي تضرب الباطل ضربة واحدة تعيد رسم الابتسامة على كل الوجوه المتعبة، وتستعيد تراب الشهداء، وتحقق الثأر الذي نؤمن أنه حقٌ قديم، وتسترد الوطن الذي نحب.

إننا نملك كل ذلك اليقين بعزيمة رجل من لم يبق لديه ما يخسره أبداً، وصلابة امرأة جرح قلبها عميقاُ جداً حيث لا يصل عشقٌ أو حزن، واثقون نحن بذلك النصر، واثقون بالعمل الذي لن نتوقف عنه أبداً، واثقون بوعد الله للذين لا يقنطون، واثقين بالمدن التي تشتاقنا كما نفعل، ولن تكفّ عن الصراخ لنا من أجل عناق أخير، واثقون، وعلى هذا نعمل بصبرٍ وإرادة بحجم الجبال.. وسننتصر، ولكنكم تستعجلون. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.