شعار قسم مدونات

التجديد في الشعر.. محاولات فاشلة

blogs - كتابة
الشعر رؤيا والرؤية بطبيعة حالها قفزة خارج المفهومات السائدة، لهذا فقد انتهت تلك الحتمية القديمة التي كانت تجمع كلّ القصائد في سلّة واحدة، فقد غدا الشعر اليوم مجموعة من الرؤى والأفكار وحتّى الأحداث التي تتجاوز بعدها الأدبي لتنتهي عند وظيفة تذكّرنا بما قاله بول ريكور عن الذاكرة المؤرشفة، لكن هذا التوجّه قد فتح الباب على مصراعيه أمام اقتحام عالم الشعر دون مسوّغات تذكر، فكان لزاما علينا في معرض حديثنا عن التجديد في الشعر الحديث أن ننبّه لخطورة هذه المسألة لأنّه عندما نترك الحبل على الغارب نكون إزاء شعير وليس شعر، فإلى أيّ حدّ يمكن الوثوق في مفهوم التجديد في الشعر الحديث؟

كشيء من الإيتيقيا وجب علينا تفسير مفهوه التجديد في الشعر حتّى نرفع كلّ لبس يمكن تسجيله، التجديد في الشعر العربي الحديث نعني به محاولة الخروج بالقصيدة العربية من دائرة التقليد من حيث الغرض والقالب والفكرة والأسلوب، وتتجلّى أهم مظاهر التجديد في الشعر العربي الحديث فيما يأتي: التجديد في الموضوعات الشعرية وعدم الوقوف عند الموضوعات التي طرقها الشعراء القدامى. وظهور أغراض شعرية جديدة كالشعـر السياسي والشعـر الاجتماعي والشعـر الملحمي. بالإضافة إلى ظهور النزعـة القوميّـة في الشعـر. كما ظهرت أيضا النزعة الإنسانية السامية وعدم الوقوف عند النظرة الطائفية أو التعصبية البغيضة من خلال اللجوء إلى الاعتماد على الوحدة العضوية في بناء القصيدة والميل إلى توظيف الرموز بجميع أنواعها: طبيعية، دينية، تاريخية، أسطورية… إلخ. دون أن ننسى التنويع في الأوزان والقـوافي من خلال الاعتماد على التفعيلة الواحدة كوحدة موسيقية بدلا من وحدة البيت العمودي شعر التفعيلة، وهذا ما قاد إلى التحرّر من قيود القافية الموحدة شعر التفعيلة.

مفهوم الالتزام ارتبط  بمفهوم الأدب نفسه، ومدى علاقته بالحياة، وبالدور الذي يقوم به الأدب والشعر في توجيه هذه الحياة، فلا يتحقّق الالتزام إلاّ عندما يقدّم الأديب للآخرين أعمالا تمس حياتهم.

ويجدر بنا أن نذكر أنّ عرف الشعر العربي الحديث نفس الأغراض التقليديّة التي عرفها الشعر القديم كالمدح والهجاء والفخر والرثاء والوصف والغزل، إلاّ أنّ هذه الأغراض لم تعد كما كانت عليه من قبل، فالمدح مثلا لم يعد مقصورا على الملوك والأمراء والخلفاء وأصحاب الجاه والسلطان قصد التقرّب منهم ونيل عطاياهم، بل أصبح تخليدا للبطولات الشعبيّة والمآثر الوطنيّة والأعمال الجليلة. والهجاء تحوّل من السباب والشتائم بأقبح الألفـاظ إلى نقد اجتماعي بنّاء، كما اختفى الفخر بالمآثر الفرديّة والآباء والأجداد، وصار اعتزازا بالأمة والقوميّة والجنس. والرثاء قد تحوّل من التقرّب إلى الحكّام ورثاء الأقارب إلى رثاء العظماء والعلماء والشهداء، أمّا الوصف فلم يعد يكتفي بتصوير ظواهر الأشياء ورسم مشاهدها الخارجية، بل أصبح تعبيرا عن الذّات وخلجات النّفس، وقد تجلّت هذه النزعة عند الرومانسيين عامة وشعراء المهجر بصفة خاصة.

وأمّا الغزل فقد تأثر بالقيم الاجتماعيّة الحديثة والعلاقات بين الأفراد والاختلاط بين الجنسين، فخفّت لوعة الحرمان التي تجلّت عند العذريين واختفى الغزل التقليدي والمقدمات الطّلليّة، واتجه الغزل الحديث إلى تحليل طبيعة الحب والكشف عن المشاعر الإنسانيّة العميقة، وقد تجلّى هذا الاتجاه عند الشعراء الرومانسيين. كما ظهر لون من الغـزل الواقعي، يصوّر المراقص والملاهي التي أدى إليها اختـلاط الجنسين، وقد اشتهر بهذا الاتجاه الشّاعر السّوري نزار قبّاني في مجموعة من دواوينه. وبالإضافة إلى الأغراض التقليديّة القديمة فقد ظهرت فنون شعريّة جديدة اقتضتها ظروف العصر ومنها الشعر السياسي والشعر الاجتماعي والشعر الملحمي.

ختاما، إنّ إرجاع كلّ محاولة فاشلة إلى مقولة التجديد في الشعر الحديث يُميّع مكانة الشعر ويعطي ذريعة لتحويل الحقل الشعري إلى ما يشبه حقل التجارب باسم التجديد ونرى اليوم صورا شعرية مفزعة لا لون فيها ولا طعم تقال في الأمسيات وتكتب في الدواوين وتطبع هنا وهناك، وللأسف نجد من يصفّق لها ويطبّل لها، وهذا كلّه باسم التجديد. كما أنّها تضرب في مقتل مفهوم وفكرة الالتزام في الأدب سواء كان شعرا أم سردا. وهذا للأمانة التاريخية، فكرة حديثة لم يعرفها القدماء في العصور الماضية، والمصطلح نفسه، أعني الالتزام، مصطلح جديد في ميدان الأدب، لم يستخدمه الأقدمون ولم يعرفوه.

والواقع أنّ مفهوم الالتزام قد ارتبط إلى حد بعيد بمفهوم الأدب نفسه، ومدى علاقته بالحياة، وبالدور الذي يقوم به الأدب عموما والشعر خصوصا في توجيه هذه الحياة، فلا يتحقّق الالتزام إلاّ عندما يقدّم الأديب للآخرين أعمالا تمس حياتهم ومشكلاتهم بشكل مباشر. ومن ثمّ يتحدّد الالتزام في الأدب بمدى ارتباط الأديب بقضايا النّاس في مجتمعه، وما يقدّمه من حلول لهذه القضايا، أو بمجرد التنبيه إليها.. لهذا نقول نعم للشعر، لا للشعراء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.