شعار قسم مدونات

عصر الرواية لا عصر الخبر

مدونات - كمبيوتر وجريدة
نهاية الخبر الصحافي.. هل هذا هو باختصار ما يواجهه الصحافي هذه الأيام في ظل الدفق الإخباري لدقائق دقائق الأمور، وتفاصيل تفاصيل الأخبار.. لم يعد ينتظر المتلقي هذه الأيام الخبر من الصحافي والإعلامي، ما دامت شبكات التواصل الاجتماعي قد كفته مؤونته، فمنصات التويتر والفيس بوك والتلغرام وغيرها لديها في كل بيت أكثر من مراسل وهو ما لا يمكن تصوره لدى أي وسيلة إعلامية التي تكتفي بمراسل أو بضعة مراسلين في الدولة المهمة، أما الدول المهملة إعلامياً فلا قيمة للخبر فيها أصلاً..

منذ ظهور النت وهو ينافس الصحافي والإعلامي، وحين حلّ الإعلام البديل حلّ معه كابوس جديد على الصحافيين وتحديداً الكبار في السن، أتذكر هنا يوم كنت مدير مكتب صحيفة لندنية في باكستان وأفغانستان، وبينما كنت أشارك في مؤتمر للصحيفة طالبنا يومها رئيس التحرير بألاّ نرسل أي قصة خبرية دون أن تكون مطبوعة ومرسلة بالإيميل فما كان من زميل كبير في السن ومراسل في دولة كبرى إلاّ أن يصرخ من ورائنا ليقول لقد فقدت عملي، لا أستطيع أن أكتب.. إنه تحدي العولمة التي كان صاحبنا من ضحاياها..

حين نقرأ لكتاب كبار اتفقت أو اختلفت معه من أمثال محمد حسنين هيكل نلمس الرواية والسياق واضحاً في كتبه، وهو ما جعله يتميز عن غيره.

إذن ماذا بإمكان الإعلامي أو الوسيلة الإعلامية أن تفعل؟!.. ما تستطيع فعله هو بناء القصة الخبرية، والسردية والرواية الخبرية فأي خبر في الأرض سيجيب على خمسة أسئلة وهي لا تتعدى السطرين أو الثلاثة، ومن ثم ستظهر هوية الوسيلة الإعلامية وهوية الإعلام كاتب القصة، والسياق الذي سيضعها فيه، وهنا يبرز معه ثقافة الصحافي، واطلاعه وتضلعه في التاريخ والجغرافيا والعلوم الإنسانية وربما غير الإنسانية..

أدركت بعض وسائل الإعلام في الثورات المضادة هذه المعادلة فلم تعد تجادل في صحة الخبر وإنما بدأت توجهه بطريقة ذكية يخالف الواقع ويخدم أجنداتها السياسية والخبرية والإعلامية، وحين نقرأ لكتاب كبار اتفقت أو اختلفت معه من أمثال محمد حسنين هيكل نلمس الرواية والسياق واضحاً في كتبه، وهو ما جعله يتميز عن غيره، وهو ما قد ينطبق على كتابات روبرت فيسك على الرغم من انحيازه الفاضح لجزار سوريا بشكل سافر وفاضح، فتلمس في كتاباته أدب الرحالة والرواية التاريخية التي تجعلك تسير معه من تلة إلى تلة ومن واد إلى آخر، وقد تجلى ذلك بشكل واضح في مقالاته وتقاريره الصحافية وانعكس بشكل أوضح في كتابه الحرب الحضارية الكبرى في ثلاثة أجزاء ..

التحدي أمام الصحافي والوسيلة الإعلامية بشكل عام هو أنسنة الحدث وجعله يلامس هموم واحتياجات البشر، وهذا لا يتأتى بلا الدخول في دواخلهم، والتعرف على هواجسهم، وانشغالاتهم، ثم الانتقال بهم من مكان إلى آخر وكأنهم يسافرون مع الصحافي مشهدياً وكتابياً، فمثل الرواية الخبرية والخبر، كمثل الكتاب والصحيفة، فالأول بكلا الحالتين باق ومعمر بينما أعمار الخبر والصحيفة قصار ..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.