شعار قسم مدونات

لماذا لا يزال هناك لاجئون؟

مدونات - لاجئو سوريا
لماذا لا يزال هناك "لاجئون" في بلادنا العربية؟
ليست هذه التدوينة تساؤلا عن الأسباب التي دفعت الناس للخروج من مدنهم وقراهم وبيوتهم ليُقيموا بعيدا عن أوطانهم، فنحن نرى هذه الأسباب عيانا كل يوم في نشرات الأخبار. ولكنها تساؤل عن سبب بقاء فاعلية ذلك المصطلح سيّء السمعة، "اللاجئون"، وبالتبعية عن سبب بقاء "لاجئين" في بلادنا العربية والمسلمة. أي: لماذا لا يزال اللاجئ العربي أو المسلم موصوما بـ "اللجوء" في بلد يسمّى عربيّا أو مسلمًا؟ ولماذا لا يزال من وُلد هو وأبوه في بلد عربي ومجتمع مسلم يسمّى "لاجئا"، يعيش في كثير من الأحيان بمستويات معيشية -اجتماعيا وحقوقيّا، وليس اقتصاديا فقط- أدنى من سائر المجتمع حوله؟

لقد أظهرتْ قضية اللجوء في الواقع الثمارَ الخبيثة للنزعة الوطنية الحديثة، والتي لم تنتشر في عقول العرب والمسلمين انتشار النار في الهشيم إلا في القرن الأخير. إنّ اعتبار المرء أنّه في مكانه غير الطبيعي هو الذي يجعله دائما في حالة "انتظار"، حالة الشعور بالنقص وعدم الاكتمال.. حالة اللجوء.

هل كان ابن تيمية "لاجئا" في دمشق؟
وإذا عدنا في التاريخ للوراء، وجدنا أنّ هذه القضية لم تكن موجودة في بلادنا العربية والمسلمة، كان الإمام ابن تيمية مثلا -في أعراف اليوم- "لاجئا" من حرّان إلى دمشق فرارا من الاجتياح المغولي.. ولكنه سرعان ما برز في دمشق وأصبح من قياداتها الدينية والسياسية، والتي كانت ممن فاوض المغول وتصدّى لهم!

ابن تيمية (مواقع التواصل الإجتماعي)
ابن تيمية (مواقع التواصل الإجتماعي)

لم يكن ابن تيمية يحمل في كتاباته تلك النزعة التي تُشعره بأنه "ناقص" أو "ينتظر" العودة إلى وطنه، ولم يكن مجتمع دمشق يحمل تلك النزعة أيضا، ولا يقتطع من حقوقه الطبيعية كإنسان وكمسلم لكونه لم يولد في دمشق. لم تكن قضية الوطن لتأخذ هذه المساحة في عقله وعقول أبناء عصره، حتى لو حمل في قلبه حنينا إلى مدارج الطفولة الأولى في حرّان. بل تجاوز ابن تيمية ذلك وساح في بلاد المسلمين، وكان له حضور في مصر وغيرها من بلدان المسلمين، إذ كان يراها جميعا صالحة لتكون موطنا له، طالما أنّ فيها مسلمين يسهل الالتحام بمجتمعاتهم. ولا تزال فتاويه المسماة بأسماء بعض المدن (الرسالة التدمرية، الفتوى الحموية، الصفدية) تُظهر ثمار ذلك التفاعل الجميل مع شعوب المنطقة قبل أن تنشأ الحدود القطرية.

الفرق بين الحنين للأوطان وتحوّلها لأيديولوجيا
لقد ظلّ أنصار النزعة الوطنية يقارنون بين الحنين للأوطان، وهو نزعة فطرية موغلة في القدم، وبين النزعة الوطنية الحديثة، والتي هي شحنة أيديولوجية سلبية هائلة نرى ثمارها النكدة اليوم ما يعيشه اللاجئون من آلام وتفريق، وما يعيشه المقيمون في الكثير من بلدان الخليج، حتى المولودون هناك منهم، من عدم مساواة مع "المواطنين الأصليين"، الذين بدَوا وكأنّهم "جنس متفوق" لهم من الحقوق ما ليس لغيرهم!

كان "الحنين إلى الأوطان" شحنة إيجابية ذات أبعاد جمالية أنشأتْ أدبا جميلا منذ العصر الجاهلي، مرورا بالعصور الإسلامية المختلفة، ولكنها لم تكن عاملا للتفريق بين المسلمين، أو لعزل مجتمعاتهم وتجميدها عن "الدخلاء"، ليصبح المهاجر "لاجئا" أو "مقيما" مختلفا عن "المواطن" في مشاعره وحقوقه ومكانته الاجتماعية.

قضية فلسطين نموذجا
لقد فوّتتْ مجتمعاتنا العربية عليها فرصة كبيرة للتطوير والتحديث والتنمية، وهي تلك الحالة التي تنصهر فيها الخبرات المتنوعة والشعوب المختلفة، أي أولئك الذين قدموا من بيئات مختلفة، في مجتمع واحد، وما يصنعه ذلك من قوة ترفد المجتمع والدولة وترفع مؤشرات التنمية.

كانت فلسطين تعاني لأسباب تاريخية يصعب حصرها من قلّة عدد السكان، ومع ذلك لم تكن هناك إشكالية في هجرة الناس إليها من البلدان المجاورة وغيرها.
كانت فلسطين تعاني لأسباب تاريخية يصعب حصرها من قلّة عدد السكان، ومع ذلك لم تكن هناك إشكالية في هجرة الناس إليها من البلدان المجاورة وغيرها.

ولا زلت أرى أنه كان من أحد الحلول الاستراتيجية لقضية فلسطين، والتي لم يقمْ بها العرب ولا الدولة العثمانية منذ أواخر القرن التاسع عشر هو ملء فلسطين بالمهاجرين العرب والمسلمين، وتوطينهم فيها من خلال تشجيعهم بفرص عمل وغير ذلك للاستقرار، ولتصبح فلسطين ذات كثافة سكانية أعلى مما كانت عليه. كانت الإمكانيات المتاحة لمثل هذه الممارسة كبيرة جدا، ولكن ومع الأسف لم تكن مجتمعاتنا العربية ولا الدولة العثمانية مؤهلة لمثل هذا الفعل الاستراتيجي؛ لما افتقرتْ إليه من وعي سياسي واستراتيجي، نفس الوعي الذي توفّر لدى النخب الصهيونية الأولى، والتي كان حُلمها بالدولة في ذلك الحين أشبه ما يكون بالخيالات!

كنت أتساءل دائمًا: ما الذي دفع أجدادي قبل قرون طويلة جدا للخروج من الحجاز ليستوطنوا فلسطين، ابتداء من الخليل، ثم نابلس، ثم أخيرا عكا في القرن الأخير؟

كانت فلسطين تعاني لأسباب تاريخية يصعب حصرها من قلّة عدد السكان، ومع ذلك لم تكن هناك إشكالية في هجرة الناس إليها من البلدان المجاورة وغيرها، وهناك الكثير من الأسر العربية التي تعيش في فلسطين اليوم قدِم أجدادها في العصر الحديث من سوريا والأردن ومصر وغيرها، بل ثمة عشائر كاملة، تشكل اليوم مخزونا بشريا هائلا من عشرات الآلاف، جاءت في القرنين الأخيرين من مناطق عربية خارج فلسطين. أي إنّ الوجود العربي والمسلم في فلسطين اليوم مَدينٌ لتلك الهجرات من مناطق عربية وإسلامية إلى فلسطين في أواخر الدولة العثمانية! لقد كان الصهاينة -وأي غازٍ محتلّ- سيواجهون صعوبة أمام شعوب كثيفة تستوطن البلاد، فكيف إذا انضاف إلى ذلك وعيٌ شعبيٌّ استراتيجيٌّ بأهمية فلسطين وبما يحاك لها؟

أيديولوجيا التعصّب الوطني
أعرف أنّ هذا الكلام قد يبدو ثقيلا على من لا يزال قلبه موبوءًا بأيديولوجيا التعصّب الوطني، والتي يظنّ من خلالها بأنّ له حقا مقدّسا ليس لغيره في قطعة كبيرة من بلاد المسلمين رسمَ حدودها المحتلّ الأجنبيّ بعد الحرب العالمية الأولى. ولكنْ ما يغفله هؤلاء أنّ الحقوق الطبيعية تكفل لهم حقهم بمساكنهم ومبانيهم، وتكفل لهم إدارة بلداتهم لكونهم أهل الخبرة فيها. أما مئات الكيلومترات الشاسعة التي تسمى فلسطين أو تسمى سوريا أو الأردن أو لبنان أو السعودية أو مصر أو غيرها، فمن الذي أعطى فيها حقّا لإنسان دون إنسان؟

فمثلا: من الذي أعطى حقّا لساكن عمّان أو العقبة في الرمثا أكبر من حقّ ساكن درعا في الرمثا؟ هذا وبين الرمثا ودرعا 14 كيلومترا فقط! بينما بين الرمثا وعمّان 89 كيلومترا، وبينها وبين العقبة 408 كيلومترا! إنّنا حين نضع نزعة التعصّب الوطني على معمل البحث الشرعي بل والموضوعي والإنساني، سنجد بأنّها نزعة ساذجة لا تصمد أمام حقائق الشرع والإنسان والتاريخ، وقد آن الأوان للتخلّص منها ولو تدريجيّا.

المعاناة المستمرّة

حين يختفي الأثر السلبي للحدود، وتصبح الهجرة تجربة جديدة لآفاق أوسع، حتى لو جاءت كنتيجة مؤلمة لحرب أو تطهير عرقي، فستكون فكرة
حين يختفي الأثر السلبي للحدود، وتصبح الهجرة تجربة جديدة لآفاق أوسع، حتى لو جاءت كنتيجة مؤلمة لحرب أو تطهير عرقي، فستكون فكرة "العودة" متاحة للمهاجر الفارّ من الحرب في وطنه.

إنّ المعاناة المستمرة لمن يسمونهم "اللاجئين السوريين" في أوطاننا العربية والإسلامية كالأردن ولبنان وتركيا والخليج وغيرها ما هي إلا تجسيد واقعيّ للآثار السلبية لغلوّ النزعة الوطنية، وهي معاناة تُضاف إلى معاناة من يسمونهم "اللاجئين الفلسطينيين"، والذين لا أستطيع أحيانا التفريق بين سحنتهم ولهجاتهم وبين سحنة سكان تلك البلاد ولهجاتها؛ كالأردن وسوريا ولبنان وغيرها! وكل ما يُقال من ذرائع "العودة" وأنّ هذه حالة مؤقّتة؛ ليس له مسوّغ.

فحين يختفي الأثر السلبي للحدود، وتصبح الهجرة تجربة جديدة لآفاق أوسع، حتى لو جاءت كنتيجة مؤلمة لحرب أو تطهير عرقي، فستكون فكرة "العودة" متاحة للمهاجر الفارّ من الحرب في وطنه ليعود إلى دياره، ولأي إنسان آخر قرّر أن يخرج من قوقعة الوطن ليجرب حياة جديدة في بلاد أخرى. أي إنّ حجّة "العودة" ليست مسوّغا كافيا لإبقاء هؤلاء الأهل، الذين يُفترض أنهم من "عظام الرقبة" كما يقولون، في حالة "انتظار"، وفي مكانة اجتماعية وحقوقية أدنى من "المواطن العادي" كما يصفونه.

لعلّ في التجربة الأمريكية -منذ مدارجها الأولى واختلاط الأعراق الأوروبية فيها- عبرة لأولئك الذين لا تزال عقولهم متحجّرة على أيديولوجية قديمة قد آذنتْ بالغروب عند قومها الغربيين الذين صدّروها لنا.

إنّ أي تشكيك في إمكانية فكرة الخروج من قوقعة الوطن وفتح آفاق الهجرة تحت حجج مثل "فيضان الهجرات" أو عدم استيعاب البلاد أو تغيير طبيعتها الديمغرافية والدينية وغير ذلك.. أيّ تشكيك في ذلك مردودٌ عليه بحقائق التاريخ أولا، والتي عرفتْ من الهجرات الكثير، بالإضافة إلى أنّ سنن المجتمعات البشرية تضبط نفسها. وفضلا عن ذلك، فليس كلّ الناس يرغب بترك بلاده وملاعب طفولته وأرضه ليسكن في بلاد أخرى، بل يبقى هذا الخيار لمن يملكون الاستعداد النفسي والفكري للهجرة ولبدء حياة جديدة في وطن جديد. وهؤلاء تحديدا، يضيفون في الغالب لمجتمعاتهم الجديدة الكثير. فضلا عن أهمية الوعي الاستراتيجي للقيادات السياسية للمسلمين، حين تكون موجودة، والذي يتدخّل لصالح أمته حين تخرج الأمور عن إطار المعقول، أو تكون مرتبطة بخطة خارجية مدروسة تضرّ بمصالح تلك المجتمعات وتهدف إلى القضاء عليها أو تهجيرها مستقبلا.

آفاق الهجرة وإضافتها الغنيّة
كنت أتساءل دائمًا: ما الذي دفع أجدادي قبل قرون طويلة جدا للخروج من الحجاز ليستوطنوا فلسطين، ابتداء من الخليل، ثم نابلس، ثم أخيرا عكا في القرن الأخير؟ لقد وجدتُ الإجابة فيما أراه من آثار تركوها؛ مجموعات بشرية متنوعة لها وزنها وإضافتها في المجتمعات المحلية التي سكنتها. صيرورة من تفاعل الشعوب وتعارفها. وهي سنّة بشرية مارسها البشر منذ فجر التاريخ، ثم يريد لنا بعض المعاصرين، المتعلّقين بأيديولوجيا "الوطنية" تجميدَها وإلغاءَها من حساباتنا!

لحلّ الأهم لمشكلة اللاجئين هو الكفّ عن وصفهم باللاجئين، ونزع بطاقات
لحلّ الأهم لمشكلة اللاجئين هو الكفّ عن وصفهم باللاجئين، ونزع بطاقات "الترقيم" و"الوسْم" عنهم لينصهروا في المجتمع المحلي ليبدعوا وليضيفوا إليه فيزيدوه قوة ونهضة.

إنّ المتعصّبين للنزعة الوطنية لا يدركون الخير الكامن في الخروج من مكعّب الوطن والانفتاح على مختلف البلدان والحضارات، وما يضيفه ذلك من تميّز وخيرٍ على العقول المهاجرة، تلك التي تبدع في بيئات أخرى مختلفة أكثر ممّا تبدع في بيئتها النمطية، فتضيف إلى المجتمع المسلم وإلى البشرية أجمع من المعرفة والخبرات ما قد يغيب لو بقيتْ حبيسة جدران الوطن والقبيلة!

ولعلّ في التجربة الأمريكية -منذ مدارجها الأولى واختلاط الأعراق الأوروبية فيها- عبرة لأولئك الذين لا تزال عقولهم متحجّرة على أيديولوجية قديمة قد آذنتْ بالغروب عند قومها الغربيين الذين صدّروها لنا في القرن الماضي!

إنّ الحلّ الأهم لمشكلة اللاجئين هو الكفّ عن وصفهم باللاجئين، ونزع بطاقات "الترقيم" و"الوسْم" عنهم لينصهروا في المجتمع المحلي ليبدعوا وليضيفوا إليه فيزيدوه قوة ونهضة. وحين يأذن الله بالعودة، إلى سوريا أو فلسطين أو غيرهما؛ فليعدْ من شاء من المهاجرين وأبنائهم وأحفادهم إلى بلدانهم، وليهاجر معهم من شاء من سكان تلك البلدان إلى سوريا وفلسطين وغيرها ليضيفوا إليها من خبراتهم، وليزيدوها قوة وتنمية.

وأنا أعلم أنّ بلوغ هذه الآفاق في الواقع ليس هيّنا، ويحتاج إلى جهود فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية هائلة، ولكنْ لنتذكّر جميعا أنّه لم يكن ثمّة وجود للنزعة الوطنية وللحدود الوطنية ولهذه الكيانات القطرية قبل نحو قرن من الزمان!

إنّ العالم المتقدّم اليوم ماضٍ في إجراءات طلاق هذه النزعة، بل ساهمتْ التقنيات الحديثة في هدم جزء لا بأس به من حواجز الدولة الوطنية الحديثة، حتى بدأت تستنفد أغراضها، وتكاد تصبح أثرا بعد عين في قابل الأيام. ولعلّه من المؤسف ألا يستجيب قومُنا للمضيّ في ما أدعو إليه هنا إلا بعد أن تصبح النزعة الوطنية موضة قديمة في العالم المتحضّر، ويصبح ما أدعو إليه حقائقَ الواقع بعد عقود، وحينها فقط تظهر الدعوات إليه، لا لكونه أقرب لفطرة الإنسان، بل اتّباعا للأفكار الغربية المستوردة، لمجرّد أنّها مستوردة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.