شعار قسم مدونات

أبي.. ابتعدت كثيرًا!

blogs ابن

كنت أتقمص دورًا لم أعرف شعور لاعبه الحقيقي على الإطلاق… كانوا يسألونني عن بطلي المفضل وصديق طفولتي وأعذب كلمة في هذا الوجود وأعمق شعور بالدفء والاطمئنان فأرد بالإجابة النموذجية.. أبي ثم أسترجع بعضا من الذكريات الجميلة والتضحيات الوفيرة من قِبَله لأكون ما أنا عليه الآن.. ولكن سرعان ما يرفع الستار ليكشف عما يخبئه من آلام طفولة وجراح مراهقة خلفتها عدوانية الغربة ودكتاتورية الفراق.

يتكرر مشهد عودته إلى البيت كل عام مرة أو مرتين غير أنه مع كل عام تقل المدة وتتلاشى الألفة وتتسع الفجوة. يدخل علينا بالهدايا كأنه ضيف يشعر بالامتنان لمن يضيفونه والمضحك المؤلم أنه تمامًا كالضيف لا يناقش المواضيع الحساسة ولا يتطرق إلى الحديث في شيء يختلج صدره ويشعر كل من حوله أنه غريب عنهم وهم غرباء عنه وما هي إلا بضع سويعات حتى يسلك كل منا طريقه.

ولأن هدفه الأساسي من السفر للخارج هو تحصيل المال وتأمين أرقى المدارس وأفضل الجامعات لنا وتحسين منظرنا ووضعنا الاجتماعي أمام الناس انعكس ذلك بقصد أو بدون قصد منه على كل أوامره وطلباته فأصبح من الواجب أن أحصل على المركز الأول في الابتدائية حتى يشتري لي الهاتف الذي أريده وكان لزاما أن ألتحق بكلية الطب لأحظى بالسيارة التي أحلم بها. ولعلكم نسيتم يا آباء أن أحيانًا كل ما يعنينا هو نظرة رضا وابتسامة نابعة من قلوبكم وحضن يجمعنا بإخوتنا حولكم.

 

لكل من ترك أهله وهاجر للعمل وجمع المال، لن تحقق ثروة فالحوادث والعمليات المفاجئة تنسف الأموال نسفًا فلا تبقي منها باقية. ولكن الإرث الحقيقي هو اللحظات التي تقضوها مع أبناءكم
لكل من ترك أهله وهاجر للعمل وجمع المال، لن تحقق ثروة فالحوادث والعمليات المفاجئة تنسف الأموال نسفًا فلا تبقي منها باقية. ولكن الإرث الحقيقي هو اللحظات التي تقضوها مع أبناءكم
 

لماذا أصبحت لقاءاتنا تدور حول المأكل والملبس ووضع المدرسة والجامعة؟ لماذا حرمتم أنفسكم من أحضان أبناءكم ولهفتهم وشوقهم للُقياكم؟ كسرت الغربة تلقائية الطفل الذي يجري نحو أبيه عندما يراه في أي وقت لاشتياقه المتواصل له. أعلم أن الكلمة مؤلمة ولكنك غريب عنا يا أبي.. أصبحت أحاديثنا تتلخص في كيف الحال والحمد لله والله أعلم بما تخفي الصدور. ضاع أنس النقاش وحرمنا من راحة البكاء في صدر يسع البيت بأكمله. ثم يحدث ما هو متوقع في أي علاقة مادية، تتحول أنت يا أب لتصبح البنك ونحن العملاء. نتصل بك لنسحب المبلغ ثم نهجرك إلى أن ينتهي ما لدينا من مال…

 

هل نحن مقصرون؟ نعم أشد التقصير في حقك. ولكن هل تذكر يوم طلبت منك أن تحل معي الواجب فقابلتني بالتأفف والعصبية؟ هل تذكر يوم قررت الحديث معك حول التخصص الجامعي الذي أحبه وما آمل أن أفعله في المستقبل فسخرت من أحلامي ولم تعبأ؟ لعلك تذكر أيضًا الأيام والأعوام التي تجاهلت فيها كلمة أمي وأظهرتها على أنها دونك في الفهم والخبرة جاهلا بحقيقة أن أول من يتأثر الطفل به هو أمه فإذا شعر بأنها ضعيفة انهارت ثقته وتدهورت شخصيته. أو تلك المواقف التي تبدل فيها كلامك حتى تثبت دوام صحة رأيك مع أن الأيام جعلتك تُقرّ أن دوام الحال من المحال. ولست بأي حال من الأحوال أتعمد تسليط الضوء على جانبك السلبي فحسب ولكن عندما يمس التقصير الصحة النفسية فيتجاهلها ويهزأ بها ولا يعطيها أهمية تفوق المال والجاه تصبح النفس خرساء فهي بحاجة إلى الاهتمام والبوح بما يعتصرها ولكنها غير قادرة على النطق خوفا من ألم السخرية الأشد مرارة ويقينًا أنها لن تجد أذنًا صاغية تفهمها أو تخلص إلى مناقشة مرضية تخفف عنها.

عندما تشتد عصبيتي على إخوتي الصغار ويتفاقم مللي وسخطي عليهم أتذكر أن هذا نتاج ضيقي بمسؤولية حملتها بحكم تقدمي عليهم في سنة الميلاد وما أنا بمسؤولة عنها. فكل غرس تغرسوه فينا يعود بحلوه ومره على إخوتنا قبل أبنائنا.

لا تحرموا أولادكم من أحضانكم من دعاباتكم من اصطحابهم للمدرسة ولو يومًا في الشهر لتشعروهم بحضوركم وإن كنتم غائبين عنهم معظم الوقت
لا تحرموا أولادكم من أحضانكم من دعاباتكم من اصطحابهم للمدرسة ولو يومًا في الشهر لتشعروهم بحضوركم وإن كنتم غائبين عنهم معظم الوقت
 

لكل من ترك أهله وهاجر للعمل وجمع المال، لن تحقق ثروة أقولها وأنا أري بأم عيني الحوادث والعمليات المفاجئة التي تنسف الأموال نسفًا فلا تبقي منها باقية. ولكن الإرث الحقيقي هو اللحظات التي تقضوها معنا بل وتُسخروها في سبيلنا. 

لا تحرموا أولادكم من أحضانكم من دعاباتكم من اصطحابهم للمدرسة ولو يومًا في الشهر لتشعروهم بحضوركم وإن كنتم غائبين عنهم معظم الوقت. تحروا كل السبل لتكونوا معهم فإن كان لا بد من السفر فلتتعاهدوا معهم على لقاءات ولو أسبوعية عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي ولتشعروهم بقربكم ووجودكم ولتناقشوا مشاكلهم بشكل دوري ولتجعلوهم جزءا حاضرا وواعيا بسبب سفرك وبعدكم عنهم.

إلى كل أب قرر أن يهاجر بقلبه قبل جوارحه سعيا وراء المال وكسب الرزق أقص عليكم الفصل الأخير من رواية مغترب لأجل المال الذي لن يجيد صياغته إلا من ذاق مرارته فاتقوا الله فيمن وكلتم برعايته. وفكروا قبل أن تقدموا للبشرية أطفالا وشبانا حرموا من التعبير عن مشاعرهم فأمسوا ضحايا وهم الحب والارتباط الفاسد لأنكم ببساطة حرمتموهم من تكوين علاقات حميمية معكم والقرب منكم بل واحتضانكم وهي كلها حاجات إنسانية وليست نوعًا من التدليل أو مقتطفات من مسلسلات تركية. والأقبح من ذلك أن تكونوا جزءا من كبت مشاعرهم وقتل عفويتهم ثم تتهموهم بالانطوائية وغباء التعامل بل وضياع الهدف!

آباؤنا الأعزاء هل سيأتي زوج يعوض عن حضن أو كلمة عذبة بخلتم بها علينا؟ ربما. ولكن إلى هنا فقد تعلمت أهم درس في الحياة أنه لن يبر الأبناء بآبائهم حتى يبر الآباء بأبنائهم. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.