شعار قسم مدونات

المحرومون من الحج

Muslim pilgrims gather on Mount Mercy on the plains of Arafat during the annual haj pilgrimage, outside the holy city of Mecca, Saudi Arabia September 11, 2016. REUTERS/Ahmed Jadallah TPX IMAGES OF THE DAY

قد يُحرَم المسلم من الحج لأنه لا يستطيع إليه سبيلا، وقد يُحرمَ بسبب تكاثر ذنوبه وآثامه التي تحول بينه وبين هذه الشعيرة العظيمة، وقد يُحرَم بمحض رغبته وإرادته حيث يكون حرصه على المال أكثر من حرصه على مرضاة ربه واستكمال أركان دينه. لكني لا أريد الكلام عن هؤلاء ولا أقصدهم بمقالي هذا، فالصنف الأول إذا صدق في نيّته حصّل أجره كاملا مع الحجيج، والصنف الثاني خلط عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليه وييسر له، والصنف الثالث معرض عن الله فأعرض الله عنه.

لكني أريد الحديث عن صنف آخر؛ أولئك الذين يستطيعون السبيل، ويرغبون في الذهاب، ويحرصون في حياتهم على مرضاة ربهم وخالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم، بل كثيرون منهم قد وهب حياته أصلا لله، لكنهم محرومون من الحج بسبب توجهاتهم السياسية وآرائهم الفكرية، -بل والأبشع- أن يُحرَم مسلمون من الحج بسبب جنسياتهم!! أي والله.. بسبب جنسياتهم، فحج المسلم الإيراني رهينة بعلاقة بلده ببلاد الحرمين الشريفين، ومؤخرا صدر قرار بمنع القَطَريين من دخول الأراضي السعودية، ومن ثَمّ حرمانهم من أداء شعائر الحج والعمرة.

أعرف أنه قد صدر قرار ملكي بفتح باب الحج للقطريين بعد إحدى الوساطات، وأعرف أن طويل العمر قد أعلن أنه سيستضيفهم على نفقته الخاصة. لكن هذا الخبر نفسه مثير للسخرية، هل يحتاج المسلم (أيا كانت جنسيته) لموافقة خاصة من عبدٍ فقيرٍ ضعيفٍ مثله حتى يؤدي عبادة ربه؟! والأدهى من هذا.. هل يحتاج القطريون لاستضافة مولانا وليّ الأمر على نفقته؟! أما كان السوريون أو الفلسطينيون أو غيرهم من اللاجئين والمشرَّدين أولى بهذه الاستضافة؟!

لا أريد أن أذكرهم بأن الذهاب إلى بيت الله الحرام ركن من أركان الإسلام، مجرمٌ من حال بين المسلم وبينه.
لا أريد أن أذكرهم بأن الذهاب إلى بيت الله الحرام ركن من أركان الإسلام، مجرمٌ من حال بين المسلم وبينه.

وقبل هذه المهزلة الأخيرة وبالتحديد يوم 26 / 6 الماضي، كنا قد قرأنا جميعا خبر القبض على اثنين معتمرين ليبيين بدعوى صلتهما بالإرهاب!! مما حدا بزميل ثالث لهما باللجوء للقنصلية الليبية هناك خشية أن يُفعَل به مثل ما فُعِل بصاحبيه. وإذا كانت السعودية قبل ذلك قد قامت بترحيل عدد كبير من المصريين بسبب انتماءاتهم السياسية، فإن الجريمة مع الليبيين أكبر، ليس لكونهم ليبيين وليس لأنها اعتقلتهم، ولكن لأنها كسرت في نفوس المسلمين قدسية قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً}، وشككت المسلمين في صحة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} فهم قد أتوا قاصدين بيت الله الحرام (وهذا عقد أمان)، ويحملون تأشيرة بذلك (وهذا عقد أمان ثانٍ)، ثم إنهم قد أدوا مناسكهم وحملوا حقائبهم وذهبوا للمطار قاصدين العودة إلى بلادهم بما يؤكد عدم خطورتهم ولا مساسهم بالأمن السعودي، وهنا تم القبض عليهم!!

حدثني صديق مصري مقيم بالسعودية -وقد اشتقنا إلى بعضنا- وقال لي: ألا تأتي للحج ونتقابل؟ فقلت له: يا صديقي هل تريد أن أذهب إلى مصر وأواجه تنفيذ حكم الإعدام هناك؟ قال: لا، قطعا لا أريد ذلك. قلت له: إن ذهابي إلى الحج يساوي بالضبط سفري إلى مصر. نعم.. للأسف، أصبحت زيارة بيت الله الحرام في ظل السياسة الحالية كالمصيدة للفارّين بدينهم من طواغيت الحكم في بلادهم!! ولا ننسى أن بلاد الحرمين كانت في يوم من الأيام ملاذا آمنا للعلماء والدعاة المضيق عليهم في بلدانهم، مصداقا لقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}، أي: تثوب إليه القلوب وتشتاق، وتسكن فيه النفوس وتطمئن، لكنها اليوم تضع الدكتور يوسف القرضاوي والشيخ الصادق الغرياني والدكتور علي الصلابي وغيرهم من دعاة الإسلام وعلمائه على قائمة الإرهاب، بما يترتب عليه حرمانهم من زيارة بيت الله الحرام.

أنا لا أريد أن أذكرهم بأن الذهاب إلى بيت الله الحرام ركن من أركان الإسلام، مجرمٌ من حال بين المسلم وبينه، ولا بكون المتابعة بين الحج والعمرة من أعظم الأعمال التي تنقي المسلم من ذنوبه وتغسله من أدران آثامه، ولكني أريد أن أقول لهم: تخلقوا بأخلاق العرب في الجاهلية، حيث كانوا يعظمون دعوة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}. ففي تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} قال ابن العربي ما معناه: (والصحيح من هذه الأقوال: من دخله كان آمناً من التشفي والانتقام، كما كانت العرب تفعله فيمن أناب إليه من تركها لحقٍّ يكون لها عليه. وهذا إخبار من الله تعالى عن منَّته على عباده، حيث قرر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت، وتأمين من لجأ إليه؛ إجابة لدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين أنزل به أهله وولده، فتوقع عليهم الاستطالة، فدعا أن يكون آمنا لهم، فاستجيب دعاؤه) اهـ من أحكام القرآن.

إذا كان التجبر والتكبر والتعالي على أحكام الله أصبحت صفات ملازمة لحكامنا اليوم.. فأين العلماء الذين أخذ الله عليهم الميثاق أن يبينوا الحق ولا يكتمونه؟

واها يا ابن العربي واها. تتكلم عن عرب الجاهلية بأنهم كانوا يتركون حقّهم لمن أناب إلى البيت، بل ويؤمِّنونه من التشفي والانتقام. فهل تتخيل أن أناسا ينتسبون إلى الإسلام يعتدون على زائر الحرم بغير وجه حق؟! ويأتي الطاهر بن عاشور ليؤكد نفس المعنى، حيث قال في تفسير الآية {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}: (والمراد من الجُعْل في الآية.. الجُعْل التكويني لأن ذلك قدَّره الله وأوجد أسبابه فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية ويَسَّرهم إلى تعظيمه) اهـ من التحرير والتنوير. ولذلك لما جاء عدوُّ قريش الأول (رسول الله عليه الصلاة والسلام) معتمرا في واقعة الحديبية المشهورة، كانت رسل قريش يرجعون إليها بأنه قد جاء قاصدا البيت الحرام، وينصحون بالتخلية بينه وبين أداء نسكه، ثم كان الصلح على أن يرجع هذا العام ويأتي من العام القادم.

وإذا كان التجبر والتكبر والتعالي على أحكام الله أصبحت صفات ملازمة لحكامنا اليوم.. فأين العلماء الذين أخذ الله عليهم الميثاق أن يبينوا الحق ولا يكتمونه؟ كيف يسكتون على منع الملايين من المسلمين من أداء مناسك الحج والعمرة؟ هل أصبح البيت الحرام ملكا لعائلة أو لبعض أفراد يحق لهم منع هذا والسماح لهذا؟ أما والله إني أخشى عليكم من قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. كنت أظن أنهم سيستسمحون جلالة الملك أطال الله عمره في أن يجد صرفة لهؤلاء الذين انتهت جوازات سفرهم ولا يستطيعون تجديدها بسبب تعنت سفارات بلادهم، أو من لا يحملون جوازات سفر أصلا من المسلمين المشتاقين لزيارة البيت الحرام. وفي خِضَمّ أحلامي وأوهامي أُفاجأ بصاعقة في صورة فتوى تُشَرعِن لمولاهم ووليّ أمرهم منع المسلمين من أداء نسكهم وشعائرهم!!

وأختم بموقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الخوارج الذين كفّروه وأسقطوا ولايته وبعد ذلك قتلوه، حيث قال لهم: لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ الله أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ الله، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا كَانَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَال. فهل تتشبهون به مع مَن توصفونهم زورا وبهتانا بأنهم مثل الخوارج؟ وهل يصدر فرمان من سماحة السلطان بأن كل من أراد أن يأتي لأداء النسك فهو في أمان حتى يعود إلى حيث أتى وكان مهما كان توصيفه عند حكام الزمان؟ وإلى أن يحين هذا الأوان.. سأظل أنشد مع ابن رجب باكيا:

يا سائرين إلى البيت العتيق لقد *** سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا على عذر وقد رحلوا *** ومن أقم على عذر كمن راحا

والله من وراء القصد

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.