شعار قسم مدونات

"قوم نُحرق هالمدينة"

blogs - egypt bus
"جيزة.. جيزة.. جيزة"
تتعالى نداءات التبّاع مُحاولًا جذب أكبر عدد ممكن من المارة إلى حافلته. أشق طريقي بين الرُكاب وأجلس على أحد الكراسي المُتهالكة. أطل برأسي من الشباك لتواجه عيناي نفس المشاهد المُكررة للشوارع التي أمرق منها كل صباح في طريقي: لافتات المحلات رديئة التصميم مُتنافرة الألوان، مقاعد المقاهي التي تفترش الأرصفة وتبتلع جزء من الشارع، الجدران المُشوهة بإعلانات المُدرسين الخصوصيين من قبيل "أستاذ رفعت أسطورة التاريخ" وبقايا مُلصقات انتخابات مجلس الشعب من العام الماضي، أجهزة التكيف التي تخرج من جسد الأبنية حائلة اللون كدمامل، الملابس الداخلية لسُكان نفس الأبنية المنشورة في الشُرفة، الأرصفة ومن يفترشونها من باعة جائلين وبضائعهم ، المارة المُتكدسين على جانبيّ الطريق في محاولة اصطياد حافلة أو سيارة أجرة تُقلهم لعملهم أو مثلي لكلياتهم. وحتى يكتمل المشهد، يُشغل السائق كاسيت الحافلة بعلو يكاد يصمني عن صوت أفكاري لينطلق منه مهرجانه المُفضل "دلع تكاتك".

يحدو بي الملل إلى مُراقبة الوقت. عقرب الساعة قارب على الثامنة وأنا بعد بعيدة. أشعر بتوتر يتصاعد بصدري، هل سأتمكن من الوصول على الموعد إلى المعمل؟ مسموح لي فقط بأربع غيابات بعدها أُحرم من دخول الامتحان. يُزيد من قلقي شلل الحافلة التي لم تتحرك منذ ربع ساعة. أنظر مجددًا من الشباك، ليست حافلتي سوى نُقطة في بحر من السيارات المشلولة بدورها. يصعد الراكب تلو الآخر إلى الحافلة، تتحول إلى صندوق مضغوط من البشر، مساحتي الشخصية آخذة في التضاؤل. أشعر بالاختناق.

أتخيل أن كل ما حولي هو رسمة لـ "جاكسون بولوك"*. بدون التفات لمنطق أو لهدف، كان يبصق بالألوان على قطعة قماش كبيرة لتتكون في النهاية فوضى من خطوط مُتشابكة جافت كل نظام ومعنى. أتخيل أن هذه الفوضى صارت إنسان، أتخيل هذا الإنسان يرسم، أتخيل مدينتي واحدة من لوحاته.

جاكسون بولوك أثناء عمله على واحدة من لوحاته  (مواقع التواصل)
جاكسون بولوك أثناء عمله على واحدة من لوحاته  (مواقع التواصل)

هذا لأن مدينتي عاجزة عن التجمل، يطفح كل القبح الكامن بأحشاء واقعها على وجهها، تتحول شوارعها لأروقة بجحيم الفوضى، يُمسي قلبها خالٍ من أي دفيء، مبتورٍ من كل جمال. أشعر بقبحها كيد تقبض على صدري وتسلبني أنفاسي، أحاول البحث بها عن أي جمال يعيد لي الهواء. أُفتش في شوارعها القديمة، شوارعها التاريخية، شوارعها التي شُيدت على غرار أوروبا، فلا أجد سوى بقايا جمال مدفون يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة. لا أيأس. أبحث في شوارعها الجديدة، شوارعها الأنيقة، شوارعها التي تكلفت الملايين، ولا أجد هذه المرة سوى كُتل حديدية نسى من شيدوها أن ينفخوا فيها الروح.

أتساءل كيف لكل هؤلاء أن يتعايشوا مع القبح؟ كيف يصمدون في وجهه الذي يطالعهم في كل تفاصيل المدينة؟ تومض بتلافيف رأسي الإجابة، إنهم لا يتعايشون أصلًا، سكان مدينتي مُتمرسين بفنون الهرب. يُشيد أغنيائها مجتمعات صناعية منغلقة على نفسها اسموها "كمبوندات"، يعلون جدرانها علّها تقف كسد في وجه سيول القُبح. لكن حتى أعلى هذه الجدران يتضاءل أمام جدار الوهم الذي ينصبه من لا يستطيعون إلى الكمبوندات سبيلًا. يتوهمون أنهم راضون بحالهم لأن "مش أحسن من سوريا والعراق؟"، يُغرقون صوت الواقع الذي يصرخ في وجوهم بمدى بشاعته بعلو شاشات التلفاز، ذاك الصندوق الذي يُطل منه كل ليلة من يصورون لهم أن "مصر أم الدنيا وهتبقى قد الدنيا"، أن "بلدنا جميلة"، أن الكل حاقد عليها. ويشتري منهم الناس الوهم لأنه وسط الغلاء صار هو الأرخص.

وهنالك من هم مثلي، سأموا الاختباء من القُبح خلف الجُدران، يودون لو يُجملوه قليلًا. لكن كيف السبيل إلى ذلك؟ فأنا وهُم محض أسرى لواقع سرقنا الصوت وسلبنا الحرية، أردانا ظلال لقهره، منعنا من أن نكون سوى ما فرضه هو علينا. صرت أشعر بذاك القبح يُطفئ بروحي جذوة الحياة رويدًا رويدًا. لكنني أحب الحياة. لكنني أريد أن أعيش. ولأعيش، يجب أن أرحل عن هنا.

عندما أُصارح أمي برغبتي في السفر، تقول لي أني هناك سأكون غريبة. لكنها لا تعرف شيئًا عن الغُربة التي أجدها هنا. تتداعى إلى ذاكرتي مقولة قرأتها يومًا أن الوطن هو ذاك المكان الذي تتوقف فيه كل محاولات الهروب**. أتذكر أني لا أود سوى الهروب. أتذكر أنه مر علىّ زمن لم أكن فيه كذلك. كان هذا من سبع سنين، عندما انفجرت الثورة. كنت بعد في الخامسة عشر. لم يسمح لي أهلي بالمُشاركة. اكتفيت بالمُراقبة عبر التلفاز والدعاء بصوتٍ خافت أن تنتصر. وعندما انتصرت، شعرت للمرة الأولى -سرعان ما ستكون الأخيرة- أن هذا الوطن وطني، أني مسئولة عنه، أني أستطيع تغييره. وما كان مني حينها سوى أن جمعت بعض من أقاربي وأصدقائي بحماس طفولي لننزل معًا وننظف الشارع.

تراكمت السنوات. قُتل الحماس ومات الأمل. كبرت وصرت أعرف أن كل مساحيق العالم لن تكفي لإزالة العفن المُتجذر في أزقة مدينتي. ما عاد بي طاقة للعيش هنا، فهذا مكان يقتل الروح. كل ما أريده هو اقتلاع جذوري وغرزها بتُربة أخرى. من جديد يُحاصرني صوت أمي، يقول لي أن تلك الأرض وحدها هي أرضي، أن لا مكان آخر سأشعر بالانتماء إليه سواها. أتساءل حينها، أيكون وطن المرء لعنة تُكتَب عليه منذ الميلاد ولا يستطيع منها الفكاك؟ وما ذنبي أنا أن اتيت لتلك البُقعة البائسة من العالم؟

"جيزة.. جيزة.. جيزة"
ينتشلني صوت التباع من أفكاري. أنظر حولي من جديد، ما زالت الكلية بعيدة، وما زلت عالقة وسط الزحام. للأسف لا أجنحة لي لأخترق الزجاج وأطير. أود أن أُغرق حواسي بصوت آخر غير المهرجان الذي فرض عليّ السائق أن أسمعه. أُخرج هاتفي من الحقيبة، أغرز السماعات عميقًا بأذني، منها تنطلق الأغنية..

"قوم نُحرق المدينة *** ونعمر واحدة أشرف
قوم ننسى الزمان *** ونحلم زمن ألطف"

___________________________________________________

الهوامش:
(*) رسام أمريكي، من رواد المدرسة التجريدية
(**) اقتباس لعمر طاهر

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.