شعار قسم مدونات

تاكسي إسطنبول.. الوجه الآخر للمدينة

blogs تاكسي اسطنبول
اكتشف سائق التاكسي الذي كان يقلني من أمام بيتي إلى ساحة تقسيم أنني أتحدث العربية. تبين ذلك من خلال حديثي على الهاتف مع صديقتي التي كنت ذاهبة للقائها وكنا بصدد تحديد المكان قبيل الوصول. وما إن أغلقت الخط حتى أكمل السائق ما كنت أناقشها به، بعربية أقرب إلى الفصحى، وراح يقترح علينا أمكنة يراها مناسبة. وسألني إن كنت شامية، لأنه -على ما قال- تبين من لهجتي أنني لست خليجية.

ولأننا -صديقتي وأنا- عربيتان على ما افترض أيضاً فقد سارع إلى توجيهي إلى مقاهي النرجيلة. ارتبكت قليلاً من هذا الاقتحام، ورحت استعيد ما قلته على الهاتف لعلّي أفصحت أكثر مما يجب أمام هذا الغريب الذي دخل حياتي فجأة، وارتأى أنني مدخنة، وقرر عني مزاج الأمكنة التي أحب ارتيادها هكذا بلا "احم ولا دستور". شكرته سريعاً وأخبرته أنني لا أدخن وهممت بالنزول قبل مقصدي لئلا يطول الحديث أكثر.

الحديث الفضولي يبدأ غالباً بالسؤال عن سبب تعلم اللغة، وسبب الإقامة في إسطنبول، وماذا أعمل وماذا يعمل زوجي.. ثم تأتي التمنيات بالسلامة والتوصيات بالحرص لتبدأ مرحلة البوح.

لكن نفسي الأخرى، تلك الأقل حيطة وحذراً والأكثر فضولاً سألته "من أين أنت؟ وكيف تتحدث العربية بهذه الطلاقة؟". فقال إنه تركي من مردين، وبالتالي فهو تلقائياً يتحدث بعض العربية لكنه عاش فترة من الزمن في الخليج وتعلم لهجة مختلفة جداً، إلى أن عاد إلى بلده واستقر في إسطنبول وتعلم الفصحى. ومن حديث إلى آخر، وسط زحمة زقاق كان يمكن أن أعبره سيراً على الأقدام، رحت أشاهد نفسي الأخرى تلك الأكثر اندفاعاً واسترخاء تثرثر مع وجه بات فجأة أليفاً لدرجة كاد يرفض معها الرجل أن يتقاضى الأجرة كاملة لولا إلحاحي.

"هذه أمور لا تحدث إلا معك" قالت صديقتي التي اعتادت الاستماع إلى قصصي مع سائقي سيارات الأجرة في إسطنبول. فصحيح أن سمعتهم السيئة لم تظلمهم كثيراً، من حيث أنهم شديدو الغضب والعصبية، ويقودون سياراتهم بتهور وسط طرقات مزدحمة تجعلك تتفاجأ أنك حتى الآن لم تصطدم بالسيارة التي أمامك، عدا عن محاولاتهم التذاكي بالفاتورة والتلاعب بالعداد أو تصريف عملة مزورة وغير ذلك الكثير.. لكن يبقى أن ثمة مفتاح إلى وجههم الآخر، هو اللغة. فما إن يسمعك سائق سيارة أجرة تنطق بلغته وتحاول جاهداً ان تستحضر الكلمات الصحيحة لترد عليه بها وتدله إلى مقصدك حتى يظهر شخص آخر من خلف المقود. شخص ودود ومتعاون وثرثار بطبيعة الحال كنفسي الأخرى التي تقفز فجأة إلى المقعد الأمامي وتروح تنطلق بالحديث تدعمه بإشارات الأيدي وكلمات مستقاة سريعاً من القاموس الإلكتروني.

تحقيق فعلي كنت أخضع له في التاكسي وأجيب عن أسئلته بكل صراحة إلى أن مللت وشعرت أنني أردد الكلمات والجمل نفسها حتى أتقنت لفظها
تحقيق فعلي كنت أخضع له في التاكسي وأجيب عن أسئلته بكل صراحة إلى أن مللت وشعرت أنني أردد الكلمات والجمل نفسها حتى أتقنت لفظها
 

وفيما نفسي الأخرى على هذه الحالة من الانطلاق، تروح نفسي الأولى المتحفظة والأكثر حذراً تراقب تلك الحالة الفصامية من موقعها في المقعد الخلفي. هكذا تشاهد كيف يصبح السائق أكثر لطفاً، فيحاول هو أيضاً أن يتروى بالكلام وينمق مخارج الحروف علك تلتقط لفظاً من هنا وآخر من هناك يسهل عليك فهم الجملة. الحديث الفضولي يبدأ غالباً بالسؤال عن سبب تعلم اللغة، وسبب الإقامة في إسطنبول، ومقارنات مع بيروت وأيهما أجمل وهل هي حقيقة كما يروى "باريس الشرق"، وهل أنا سعيدة هنا، وماذا أعمل وماذا يعمل زوجي.. ثم تأتي التمنيات بالسلامة والتوصيات بالحرص لتبدأ مرحلة البوح. فيخبرني السائق من أين هو، وعدد أفراد أسرته، وكم ساعة يعمل في اليوم، وفي أي مناطق يجول، وأي من جنسيات الركاب يفضل، وغالباً ما ينتهي الحديث بفتح الهاتف على صور أطفاله ليعود ويخبرني قصة كل منهم إذا ما طال الطريق.

لا أعلم إن كان ما يخبرني به سائقو التاكسي في إسطنبول حقيقياً أم أنهم لشدة اللف والدوران في شوارع المدينة وربما ترداد الأحاديث نفسها ملوا هم أيضاً وباتوا يخترعون قصصاً!

تحقيق فعلي كنت أخضع له في التاكسي وأجيب عن أسئلته بكل صراحة إلى أن مللت وشعرت أنني أردد الكلمات والجمل نفسها حتى أتقنت لفظها. فقررت من باب التسلية أن أخترع سيناريوهات مختلفة في كل مرة أستقل فيها سيارة أجرة، إذ اكتشفت أنها وسيلة ممتازة لممارسة اللغة التركية ومراجعة تصريف الأفعال والملحقات وهو ما لا يتسنى لي فعله كثيراً في الأوقات العادية. فالقلة من الأصدقاء الأتراك يتحدثون لغة أخرى نستعين بها في لقاءاتنا لتبقى القواعد وأساليب تعبير حبيسة ساعات الدراسة.

وهكذا بدأت أجيب في كل مرة عن الأسئلة بإجابات مختلفة. فمرة أكون ربة منزل، ومرة مدرسة لغة عربية، وأخرى مجرد طالبة لغة تركية، وأروح أحياناً أستعرض المهن التي درستها ويمكن أن تنطبق علي، حتى أني تعلمت أخيراً كيف أقول إنني أعمل أونلاين من المنزل. أما زوجي، فهو أيضاً تناوب على عدد من الأشغال التي قد تنطبق على رجل عربي مقيم في تركيا ومنها مثلاً مهندس كومبيوتر، صاحب محل ألبسة أو تاجر قماش. وقد استوحيت له هذه المهن لكون حينا يقع بمحاذاة سوق قماش ضخم ومصانع ألبسة يقصدها التجار الأتراك والأجانب وغالباً ما نسمع فيها لهجات عربية متنوعة. فعدت ذات مرة إلى البيت وأنا أتضاحك لأبلغ زوجي أني جعلته اليوم تاجر قماش.

لا أعلم إن كان كل ما يخبرني به سائقو التاكسي في إسطنبول حقيقياً أم أنهم لشدة اللف والدوران في شوارع المدينة وربما ترداد الأحاديث نفسها ملوا هم أيضاً وباتوا يخترعون قصصاً وأدواراً يخبرونها لمن يرغب في الاستماع مثلي. فأنا أتقنت اللعبة لدرجة أنني بت أتفادى استخدام "أوبر" ونسخته التركية حيث يعمم على السائقين عدم الثرثرة مع الزبائن، بينما أصبحت أنا أبادر إلى الكلام أن صادف وآثر السائق الصمت على غير عادة. كتلك المرة التي سألت السائق عن نوع الموسيقى التي جعلنا نستمع إليها، فقبل أن يجيبني سألني إن أعجبتني ثم قال إنها من منطقة طرابزون، مدينته الجميلة التي غادرها صغيراً ولا تزال جدته تقيم فيها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.