شعار قسم مدونات

هذه دولة ولدت لتموت أو "تُقتل"

مدونات - السيسي

هل أتاك حديث الدولة التي تتحلل من جميع التزاماتها تجاه مواطنيها، وتطلب منهم الجباية مقابل حمايتهم من خطر "مجهول" لا يراه سواها، وإما أن تدفع أو يوضع اسمك تحت لوائح هذا الشبح المجهول.

لن تدعم هذه الدولة طعامك أو شرابك أو تنقلاتك، ولن تنفق المزيد على تعليمك سيء السمعة، فهي دولة "يعمل أيه التعليم في وطن ضايع"، وعندما تتخرج من هذا "التعليم المزعوم" لن تساعدك بأي شكل من الأشكال على إيجاد وظيفة ملائمة، وإذا قررت الابتعاد عنها بالعمل في مشروعك الخاص، ستلاحقك ضرائبها وقوانينها العقيمة، حتى تفشل عن بكرة أبيك، هذا إن نجوت من شبح السجن بسبب الديون.

أما إذا قررت أن تكب كل هذا وراء ظهرك وتغادرها لأي متنفس خارجي، لن تنجو إلا بتصريح أمني أو تقبع فيها إلى يوم قيامتك.

undefined

 

هذا الإصدار الجديد من الدولة المصرية على يد نظام السيسي أثبت أنه "الأفشل" في تاريخ هذه الدولة عتيدة السلطوية، التي كانت تُسّير مركبها بقوانين الطفو السياسي، والآن تصر على أن يغرق الجميع بلا تردد، فهذه النسخة شديدة الغباء من الدولتية المصرية تتجاهل أي توازنات مصلحية آنية، لصالح رغبة جامحة في التحلل من جميع التزاماتها المعيوبة، اللهم ما عدا الالتزام بتربح سدنة معبدها وفقط، وحتى هذا التربح وضعت له قوانينه الجديدة، فلا يمكن أن تدخل المعبد من الأساس إلا بشروط جديدة للعسكرتارية الحاكمة له.

قامت دولة عبد الناصر (الأب الروحي لطغمة العسكرتارية البالية في الحكم) على أساس "الكفالة"، ألا وهي الدولة التي تلتزم بالحد الأدنى من الطعام والخدمات الأساسية للمواطن في نظير تأميم السياسة والمجال العام لصالح حزبها الأوحد ورجلها الحاكم.

وفي سبيل ذلك كانت تتدخل لتضبط إيقاع الأسواق المحلية، وتلتزم بمنظومة دعم (حتى وإن كانت هشة)، وتوفر خدمات أساسية رديئة لكنها مستمرة كالمواصلات والصحة، وينشأ على هامش هذه الحالة اقتصاد خدماتي دولتي برعاية (مصانع – مصالح حكومية.. إلخ) كانت المستقبل الأول لسيل الوظائف المطلوبة من سوق الشباب حتى انفجر الوضع فيما بعد.

ومع هذه الحالة كانت الطبقة الحاكمة المشكَّلة عقب انقلاب 1952 تضع خطوطًا عريضة للفساد المالي والإداري ولا تمنعه بما يحفظ توازن المركب، ويحقق مبدأ الطعام مقابل السياسة، وتفتح معتقلاتها الحربية في وجه كل من يُخالف أو يُروج لضد هذا المبدأ.

وعقب فترة انتقالية شديدة التعقيد حاولت استرضاء المواطن، جاءت لحظة ميلاد نسخة جديدة من هذه الدولة بانقلاب عسكري دعمه الشرق والغرب، ولكننا فوجئنا بالنظام الذي ظل يعاني من "أزمة شرعية"

بالانتقال إلى عهد السادات حاولت الدولة التخلي عن هذا الدور بصورة تدريجية، وقلصت من الخطوط العريضة لطبقة الفساد المالي والإداري والسياسي، في إطار ما عُرف بسياسة "الانفتاح الاقتصادي"، إلا أن هذه المحاولة للانقلاب على موروث الدولة الكفيلة، أدى إلى انفجار الأوضاع فيما عُرف بـ "انتفاضة الخبز" يناير 1977، والتي كانت بمثابة جرس إنذار، لهذه الدولة الهشة، أن بقاء الاستبداد السياسي مرهون بحد أدنى من الواجبات.

فترة المخلوع مبارك أخذت وقتًا حتى تمكنت من التفلت من هذه الواجبات، وذلك نظرًا لأنها الأطول حتى الآن، إذ بدأت بإنتاج نخبتها الاقتصادية التي ابتلعت عمولات بيع القطاع العام فيما بعد بصفقات فاسدة، وذلك عقب الفشل أو "إفشال إدارته"، وقد كان آنذاك أحد بقايا حفريات اقتصاد عبد الناصر الأبوي، وصولًا إلى رفع الدعم عن غالبية مسلتزمات الإنتاج تدريجيًا مما تسبب في زيادات باهظة في الأسعار.

ومع كل ذلك لم يأت نظام مبارك على الدعم المباشر للمواطن إلا في نهاية فترته أي أنه كان يعرف قوانين الطفو جيدًا التي سارت به 30 سنة، وقد كانت أجهزته الأمنية -وخاصة المعلوماتية منها- على دراية كاملة بهذا التعاقد بين الدولة والمواطن، لذا كانت تدرس المزاج الشعبي العام باستمرار وتحاول تجنب تقلباته خاصة عند قرارات ارتفاع الأسعار بتحديد توقيتات نشرها من عدمه أو التراجع عنها.

لكن مع التملص من هذه الواجبات رويدًا رويدًا، واختفاء الخطوط العريضة تقريبًا لطبقات الفساد على هامش الحكم، وظهور توابعها في وحل السياسة، فاجأ المزاج الشعبي الجميع بثورة شعبية أطاحت برأس النظام.

وعقب فترة انتقالية شديدة التعقيد حاولت استرضاء المواطن، جاءت لحظة ميلاد نسخة جديدة من هذه الدولة بانقلاب عسكري دعمه الشرق والغرب بأموال لم تدخل مصر تقريبًا طوال 40/50 سنة ماضية، ولكننا فوجئنا بالنظام الذي ظل يعاني من "أزمة شرعية" حتى وقت قريب يحطم قوانين الطفو السياسية والاقتصادية، ويصر على سحق الطبقة المتوسطة التي نشأت على هامش "الدولة الكفيلة" ناهيك عن قتل الطبقة الفقيرة.

هذه تصرفات دولة
هذه تصرفات دولة "مجنونة" لا تريد أن تكسب شرعيتها في المجتمع بنظام "الدولة الكفيلة"، إذ تتخلى دولة السيسي من أول يوم عن كل أدوارها "الهشة بطبعها"
 

نسخة من الدولة بلا برنامج اقتصادي سوى تدمير الطبقات الشعبية الدنيا ونزع عنها أي ورقة توت متبقية كانت تسد رمقها، رفع للدعم بشكل جنوني بلا خطط امتصاص بديلة، سياسة اقتصادية هوت بعملة البلاد إلى أسفل سافلين، مشاريع عملاقة -مشكوكة الجدوى- أكبر من حجم البلاد في ظل دولة تعاني من نقص مريع في السيولة المالية.

أيضاً ارتفاع الأسعار بلا أي زيادة في رواتب الجسد الحكومي المترهل، ناهيك عن القطاع الخاص الذي يواجه خسارات متتالية بسبب السياسة الاقتصادية العشوائية، صفقات عسكرية ضخمة بلا داع استراتيجي يذكر، التهمت أموال المساعدات الخليجية التي جاءت لتثبيت شرعية النظام.

هذه تصرفات دولة "مجنونة" لا تريد أن تكسب شرعيتها في المجتمع بنظام "الدولة الكفيلة"، إذ تتخلى دولة السيسي من أول يوم عن كل أدوارها "الهشة بطبعها"، وتنفذ فقط قانون السلاح والقوة في وجه من يعترض حتى ولو كان بلا أجندة سياسية.
 

بل وعلى صعيد دورها الأمني الذي تتغنى به أمام معارضيها تبريرًا لهذا الوضع الاقتصادي المزري، فهو في الحقيقة أمن سياسي للنظام لا أكثر ولا أقل، فالمعركة الحقيقة في سيناء أمام مليشيات مسلحة فشلت في إنهائها منذ 4 سنوات تقريبًا، ولم يجنِ أهالي سيناء من هذه "المعركة الفاشلة" سوى التهجير والتشريد والقتل، وما يزيد الطين بلة أن المعركة انتقلت إلى الوادي بسلاسة شديدة، وأصبحت الأهداف داخل المدن الكبرى والصغيرة حتى القرى أيسر ما يكون الوصول إليها، ومع ذلك نسمع أنها دولة "أمنية" تواجه "الإرهاب".

هذه الدولة المبتسرة منذ ولادتها مع كل هذا الفشل الاقتصادي والأمني تصر (بكل بجاحة) على تأميم المجال العام ومصادرته لصالح الأجهزة الاستخباراتية والأمنية التابعة للرئيس، فلا حققت أي أدوار حماية اقتصادية لعموم الشعب ولا نجحت في معاركها الأمنية الحقيقية أو المزعومة، ولم تحقق سوى رصيد من القتل والاعتقال للمعارضين من كافة الأطياف التي عجزت حتى عن تصنيفهم بشكل صحيح، فالكل يقع تحت طائلة "مكافحة الإرهاب".
 

وعليه فإن هذه النسخة من الدول السلطوية سيئة السمعة باتت فاشلة حتى في البقاء على أسباب استمراريتها، فلا ننكر إمكانية استمرار السلطوية والديكتاتورية لأمد بعيد، ولكن فيما أعتقد أن هذا يحتاج إلى "السياسة" في النهاية، وهي ليست موجودة في دولة السيسي عدوة السياسة، والتي على ما يبدو ولدت لتموت أو تُقتل ولو بعد حين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.