شعار قسم مدونات

أبشر.. لا أمل!

blogs الحياة
كلما تعقدت حياة الإنسان، يزداد تعلّقه بأمل أخير يرى فيه بشارة النجاة، ينتظر المكروب دائما شيئا يعلق عليه آماله في الخلاص.. تلك قاعدة عامة للحياة، يعيشها الإنسان -كل الإنسان- منذ ميلاده حتى موته.. ربما يكمل رحلته على المنوال نفسه بعد الموت، لكن على الأقل، هذا ما نعرفه الآن.

هل تتذكر يوم كنتَ صبيا صغيرا في الابتدائية تعلّق آمالك كلها بأن تكبر بضع سنوات إلى الثانوية، لتنتهي كل مشكلاتك؟ معك حق، حين تدخل الثانوية، ستتمكن من الخروج بمفردك، سيزيد مصروفك ضعفين، ستحمل مفاتيح خاصة للمنزل، وستكتب بالقلم الجاف لا الرصاص، وستشتري ملابسك بنفسك كما يفعل أخيك الأكبر.. تتذكر كيف كنتَ تؤمن إيمانا كاملا أن مشكلات الحياة تنتهي عند بلوغك هذه المرحلة.. الآن، وقد تجاوزت الثانوية، ترى مشكلاتك قد انحلت حقا؟

‏أنت الآن في الثانوية، تكتب بالقلم الجاف، وتحمل مفاتيح المنزل، وتتمكن من الخروج بمفردك، والعودة وقتما تشاء.. مشكلات الأمس قد انحلت تماما.. لكن، ما تلك التحديات الجديدة!؟ المصروف لا يكفي، وابنة الجيران لا تبادلك الاهتمام، ووالدتك تراقب علبة السجائر في جيبك.. أخوك الأكبر صار الآن في الجامعة، يسافر ولا يعود إلا بعد أسبوع أو اثنين.. هكذا إذن، كل ما تحتاج إليه هو أن تمر السنوات سريعا لتصل إلى هناك.

‏الجامعة يا صديقي، بداية الاغتراب، وحديث الآباء حول الرجولة والاستقلال المادي، الآن يمكنك أن تشرب السجائر بأريحية، لكن ما بال الأمر قد تعقد هكذا؟ أين أمنيات الرخاء التي عقدناها على الجامعة وأيامها؟.. ربما كانت خدعة، أخي لم يكن يشتكي كل هذا.. أخبرك حقيقة؟ لقد كان يشتكي كل هذا حقا، لكنّك ما كنتَ لتدرك شكواه بعد.

‏استغرقتنا مشكلات الحياة وظلم الأنظمة وضيق البلاد وتصورات النجاة، فلم نعد نسعى للبناء.. وصار غاية السعي أن نصل إلى حياة
‏استغرقتنا مشكلات الحياة وظلم الأنظمة وضيق البلاد وتصورات النجاة، فلم نعد نسعى للبناء.. وصار غاية السعي أن نصل إلى حياة "عادية"، ومستقر لمشاكلنا التي تحاصرنا وتحاصر أهلنا..


هكذا هكذا.. سنوات تلو سنوات، ومراحل تلو مراحل، تتعلق النفوس بالمرحلة التي تليها، وتنعقد الأحلام بمرور الأيام، ثم حين يجيء يوم الخلاص، نجد مشكلات جديدة على نحو خاص.. فنعقد الأمل من جديد على اللاحق من الأيام.. وهكذا دواليك.

لا بأس عليك، أنت ضحية، لا ريب في أنك ما زلت تحفظ أناشيد الطفولة.. وتهدينا الحياة أضواء في آخر النفق، تدعونا كي ننسى ألما عشناه.. حتى في أيامنا الأولى، كان انتظار شيء مجهول هو مفتاح النجاة والخلاص.. تلك فلسفة قد اكتسبتها يا صديق منذ نعومة أظافرك.

‏الآن، ‏هل يمكنك بعد أن تجاوز الأربعين من عمرك مثلا أن تكتشف كيف كان فهمك للحياة وفلسفتها خاطئا؟ أخبرك أمرا؟.. هذا على الأغلب ما حصل. ‏للحياة فلسفة خاصة، غريبة، مجهولة. ‏حنانيك.. لن تفهم الحياة مهما تغولت فيها وتوغلت.. غاية الوصول أن تدرك ما يُعينك على المرور منها بسلام.

لا تستغرب ذلك اليأس الكبير، لقد ‏‏أضحى "الخلاص" شيئا وهميا للغاية في تصوري، لم أعد أعرف له شكلا واضحا، ولا رؤية محددة.. لا أعرف الآن هيئة صريحة أستطيع أن أقرر عند بلوغها أنني أدركتُ النجاح والخلاص.. لم أعد أحمل حُلما، ولا شغفا، سوى الوصول إلى زاوية قرار واضحة لا أحتاج فيها للتفكير في معركة الغد.

‏استغرقتنا مشكلات الحياة وظلم الأنظمة وضيق البلاد وتصورات النجاة، فلم نعد نسعى للبناء.. وصار غاية السعي أن نصل إلى حياة "عادية"، ومستقر لمشاكلنا التي تحاصرنا وتحاصر أهلنا.. لا، لقد أصبحنا نقاتل كي نصل إلى هدنة معها، نخوض الحرب من أجل هدنة فقط!

الكون لا يتشوّق لمعرفة خبايا ليلتك الفائتة.. الناس في الشوارع لن يسمعوا صرخات حزنك ولا هتافات فرحك، الأيام لن تتوقف لحظة لتستمع إلى شكواك أو مبهجات حكايتك.
الكون لا يتشوّق لمعرفة خبايا ليلتك الفائتة.. الناس في الشوارع لن يسمعوا صرخات حزنك ولا هتافات فرحك، الأيام لن تتوقف لحظة لتستمع إلى شكواك أو مبهجات حكايتك.
 
تلك هي معركتي الآن، وهذا شيء يزعجني جدا.. لستُ راضيا أبدا عما يحصل، لم تكن تلك هي الخطة، لم تكن تلك أحلام الطفولة ولا مشاريع الصبا.. كل المشاريع مؤجلة، كل الأحلام معطلة، كل الأفكار مكتوب إلى جوارها: يوما ما.

الآن أخبرني، كيف كانت ليلتك البارحة؟ ترى الشمس تشرق كل صباح في موعدها، وبائع الحاجيات ينادي على بضاعته في التمام، وأصوات المركبات في الشوارع تبدو كما هي كل يوم.. أرأيت!؟ لا شيء في الكون يتغير حين تحزن أو تسعد أو تهدأ أو تغضب أو تشقى أو تنعم. 

لا يتشوّق لمعرفة خبايا ليلتك الفائتة.. الناس في الشوارع لن يسمعوا صرخات حزنك ولا هتافات فرحك، الأيام لن تتوقف لحظة لتستمع إلى شكواك أو مبهجات حكايتك.. لن تنتهي الحياة على عتبات مأساتك كما كنت تحسب، ولا مكان في زحام الكون لمثلك حين تظن أن قيامة الأفراح قد قامت.. كن سعيدا أو حزينا، الحياة تسير رغما عنك، وعنها – على ما يبدو!

‏كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف غدونا كذلك؟ وإلى متى سنبقى هكذا؟ هل سينقضي العمر وما نزال نبحث عن الهدنة؟ هل هذا هو نصيبنا من الحياة؟ وما مستقبل تلك الأحلام التي خططنها ذات يوم في دفاترنا؟ هل سندرك يوما متسعا لتعويض كل هذا؟

‏لا أدري.. حقا لا أدري!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.