شعار قسم مدونات

خواطر فوكويّة.. حول فيلم الخلية

مدونات - فيلم الخلية

كان لا بد أن اصطحب ميشال فوكو معي حين قررتُ مشاهدة فيلم الخليّة بعد فترة طويلة من الملل وعدم وجود فيلم آخر أشاهده. أفسحتُ لفوكو مساحة جوار وعيي وأحضرتُ له الفيشار الذي لا أعرف إن كان يحبّه أم لا، وجلستُ جواره أستمع لتعليقاتهِ الساخرة ممتنًا. والسبب هو أن فوكو تقريبًا هو الوحيد الذي باستطاعتهِ تفسير فيلم رسمي كهذا أنتجه إبراهيم إسحاق المتهم في قضايا نصب واحتيال كنوعٍ من المصالحة الوديّة مع الشركة بإنتاج فيلم عن تفوّق الشرطة المصريّة وصمود أهلها الذين يقدمهم الفيلم على أنهم النموذج المثالي للمواطن المصري.

 
وفوكو هو فيلسوف فرنسي توفّي في أوائل ثمانينات القرن الفائت، لكن أعماله الفلسفيّة تركت أثرًا لا يُمحى في العقل الفلسفي الغربي. وتدور أفكاره عن أن السلطة في أي مجتمعٍ لكي تعمل لا بد أن تقوم بأمرين معًا. الأول هو تحديد المعقول عن طريق رسم إطار فكري للأفكار المقبولة والمعقولة التي يجب الإيمان بها والتحرّك من خلالها فتحدد خطابًا رسميًا يتم اعتماده كمنطق فكري للمجتمع بشكل عام وكل ما يقع خارجه هو الجنون أو التطرف أو اللامعقول. ثم تبدأ السلطة في تغذيّة هذا الخطاب لمؤسساتها الرسميّة كمؤسسات القانون والطب النفسي والتعليم لتغذي بدورها أفراد المجتمع ليعمل الجميع وفق هذا المنطق المعقول. بالتالي لا يصير الجنون أو التطرّف جريمةً إلا بالقدر الذي يزلزل من قدرة السلطة على فرد سلطانها. لا يعترف فوكو إذن بوجود طبيعةٍ ما للأشياء، وإنما يوجد منطق أو خطاب سلطوي تلبّسه السلطة للأشياء وتُجرّم كل من لا يقتنع بهذا المنطق السلطوي.

 

 
نأتي -بهذه الخلفيّة الفكريّة- لنرى ما يريد الفيلم أن يقوله لنا. الفيلم بشكلٍ عام يُقدّم لنا الشرطة المصريّة في رداءٍ لم يره أي مصري في الواقع. فهم أفراد مفتولو العضلات طوال القامة ساخرون في المواقف الصعبة، يدافعون عن المواطنين ويحفظون حقوقهم ولا يميلون إلى تعذيب المنحرفين حتى لو كانوا مجرمين، ويحفظون الحقوق المدنيّة للناس. هؤلاء قوم لم يعرفهم المجتمع المصري في أي لحظة من تاريخه المديد. فالمجتمع المصري يعرف فقط من يقابله في حياته الواقعيّة. يعرف أمين الشرطة الذي يبتزه ليأخذ منه مالًا كإتاوة يكفّ بها شرّه عنه. يعرف ضباط الشرطة الذين يجلبون مواطنًا كي يعذّبوه ويصفعوه ويسخرون منه وهم يدخنون السجائر ويمرحون. يعرف الضباط الذين هجموا عليه في رابعة يقتلوه ويمثلون بجثثه ويجرفونها بالجرافات. ويعرف كذلك ضباط الشرطة الذين ركضوا أمامه كالخراف في ثورته ضدهم في يناير 2011. أما هؤلاء القوم في فيلم الخليّة فهم فضائيون غرباء لا يعرفهم ولم يرهم في حياتهِ ويشبهون حواديت الخيال العلمي.

 
هذا التناقض الشاسع بين حقيقة الشرطة المصرية وما يحاول فيلم الخليّة تصديره هو فاتحة الكتاب في الخطاب الطويل الذي يحاول من خلاله الفيلم التأكيد على وجود "دولة" في النظام الانقلابي للعسكر ومنحها بعض الهيبة من خلال تغويل شرطتها. وفي مقابل هذه الصورة المتعملقة للشرطة يصوّر الفيلم المجتمع المصري في ثلاث فئات واضحة ومحددة. 

 
الفئة الأولى هي أهالي العسكر. وهم قومٌ متحضّرون على الطريقة الغربيّة يعيشون في الفيلات الملحقة بحمامات السباحة ويتكلمون نصف كلامهم بالإنجليزيّة ويسمعون الأغاني الأجنبيّة، وهم قومٌ أشدّاء، حتى أن نساءهم أبطال يقاومون السرطان ويتغلّبون عليه. بالتالي فهم يستحقّون مكانتهم على رأس المجتمع. 

 
الفئة الثانيّة هي المتساقطين من أهالي الطبقة العليا المنحرفين أخلاقيًا والذين -بسبب هذا الانحراف- ذهبوا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. فبعد أن كانت حياتهم تتمحوّر في السُكْر والعربدة، انتقلوا فجأة إلى الجماعات الجهاديّة المتطرّفة كي يكفّروا عن خطاياهم. وهذه الفئة هي التي يستغلّها المتطرفون الإرهابيون الذين يأتون من خارج المجتمع. 

 
الفئة الثالثّة هي الناس مكفهرّة الوجه التي تسير في حالها، أو تركض مذعورة من الإرهاب بينما تقوم الشرطة بحمايتهم! وهم جميعًا من الكومبارس الذي لا يأبه بهم أحد، ولا يلتفت إلى حياتهم أو مماتهم. مثل سائق القطار الذي أصيب بطلقٍ ناريّ بطريق الخطأ أثناء قتال ضابط الشرطة والمتطرّف. ثم أزاحه ضابط الشرطة بجانب ذراعه ليحاول إيقاف القطار. مثل هذا الكومبارس التافه لا قيمة له ولا قصّة ولا زوجة أو أطفال يحزنون لموتهِ، برغم أنه مات أثناء تأديّة عمله مثله مثل ضابط الشرطة الذي مات أيضًا أثناء تأدية عمله فتحوّل موته إلى قصّة مأساويّة استحقّت أن تكون محور الفيلم ودافع أبطاله للاستمرار والأخذ بثأر من قتلوه. 

 

undefined 

 
بجانب هذه الفئات الثلاثة هناك فئة المنحرفين والمجرمين الذين يدخلون في علاقات تعاقديّة مع الإرهابيين الذين يستغلون الدين لتحقيق مصالحهم الماديّة. وهؤلاء ليسوا من المجتمع إنما هم على هامشهِ، فهم خريجو السجون الذين يعيثون في الأرض فسادًا. وكل دورهم هو استخلاص المعلومات منهم، أو استخدامهم كطُعمٍ لاصطياد حيتان الإرهاب الكبيرة.

 
أما المتطرّفون فهم قومٌ من خارج البلاد. وهم غالبًا ينتمون تنظيميًا إلى الدولة الإسلاميّة التي يطلقون عليها داعش. يحاولون أن يستغلّوا الدين وتديُّن الناس في تنفيذ خططهم الاستغلاليّة ومصالحهم الماديّة. وهو التصوّر التقليدي المهترئ الذي يتبنّاه كل من السلطة في الدولة وكذلك المعارضين لهذه السلطة. إذ أن المعارضة -كما أخبرنا فوكو مرارًا حتى بُح صوته- هي نوعٌ من تمديد نموذج السلطة ذاته وليس خروجًا عليه. بالتالي لا يمكن لأحدٍ أن يناقش احتماليّة أن يكون نموذج الدولة أو السلطة في مصر -أو نموذج الدولة القوميّة الديمقراطيّة عمومًا- هو نموذج يقع خارج الفكر الديني الذي يعمل على تكريس الانتماء أو المرجعيّة إلى شيءٍ غير الدين نفسه وليس إلى الإقليم أو السلطة داخل هذا الإقليم.

 

لا يمكن لأحدٍ -سواء من رجال السلطة أو المعارضة- أن يناقش فكرة أن يُقام نظام مدني يعترف بالمرجعيّة الميتافيزيقيّة كأساسٍ في تحديد هويّة المجتمع وانتماءه. والسبب أن هذه الفكرة تأتي من خارج النموذج المعقول الذي تحدده السلطة وتقبل به المعارضة -إن كان هناك معارضة- وتحاول أن تضع نفسها بديلا عن السلطة وفقًا لذات الخطاب الرسمي. إن هذه الفكرة تمثّل اللامعقول أو الجنون كما يخبرنا فوكو، ومكانها الرسميّ هو السجن أو المصحّة العقلية.

 
لا يمكن للمتطرّفين-إذن- أن يكونوا أيّ شيءٍ إلا أن يكونوا "مصلحجيّة" يستغلون الدين. وهي الرؤيّة التي تُلصق بأي خطاب ديني سواء قاله الإخوان أو السلف أو الدولة الإسلاميّة أو أي دولة رسميّة أخرى كتركيا وغيرها. وإذا اتُهم النظام المدني -لا قدّر الله- بأنّه يستغل الشعارات في التأسيس لسلطته ومصلحة الحاكم كما اتّهم المتطرّف ضابط الشرطة، فإن الرد الوحيد سيكون مثل ردّ ضابط الشرطة. فبعد الألفاظ النابيّة يقول إن السلطة تقوم على حماية الناس وعلى حماية القوميّة التي يعرّفها بأنها "دين وبلد".

 
لكن إذا كانت حماية الناس -التي هي دور الدولة ونظامها الأمني- هي شيء لم يعرفه المواطن المصري في حياتهِ وكان خيالاً وفانتازيا لم يرها إلا في السينما الغربيّة، فإن السؤال عن جدوى هذه الدولة وجدوى شرطتها يصير سؤالًا شرعيًا حتى وفق خطاب الدولة الرسميّ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.