شعار قسم مدونات

فقه الصداقة

Blogs- friend

قالت العرب قديماً: قل لي من تصاحب، أقل لك من أنت !واليوم كلنا ندرك مدى تأثير الأصحاب والأصدقاء والعلاقات على شخصياتنا وقراراتنا، وعندما نذكر كلمة العلاقات، فإننا نتحدث عن كافة أنواع العلاقات التي نبنيها، ولكل تأثيره بحسب قربه من الإنسان، سواءً أكان زوجاً أم صديقاً أم زميلاً، ولكن هل من الممكن أن يصل تأثير هذه العلاقات لدرجات أعمق، تصل لإنتاجيتنا وصحتنا وعافيتنا العقلية والجسدية والنفسية ؟

        

نشرت جامعة هارفرد دراسة سميت بـ (The grant study) واستمرت لمدة تقارب الثمانين عاماً، وكان من ضمن الأشخاص المشاركين في الدراسة شخصيات بارزة، فمنهم من رشح لمجلس الشيوخ الأمريكي، بل وأصبح أحدهم رئيساً وهو جون كينيدي !وأظهرت الدراسة أن النجاح المادي لم يعتمد على مستوى الذكاء، بل اعتمد على دفء العلاقات الإنسانية بين الأشخاص، وقدمت الدراسة ملخصاً مهما يقضي بأن الأشخاص الذين يقدرون العلاقات الإنسانية في شبابهم، عاشوا حياة أطول بصحة أفضل وسعادة أكبر وبمال أكثر، ولخصت الدراسة بكلمة واحدة وهي " الحب ".
          

وفي مراجعة شاملة تحليلية لـ 148 دراسة عن معدلات الوفيات، وجد أنه هناك علاقة وطيدة بين الوفيات وفقدان الإنسان لعلاقات اجتماعية مقربة في حياته، بل ووجد أن انعدام وجود علاقات اجتماعية قريبة وقوية للإنسان، أد لنفس نسبة الوفيات نتيجة تدخين 15 سيجارة يوميا !أو شرب أكثر من 6 مشروبات من الكحول في اليوم الواحد !وفي دراسة أخرى، تبين أن الإنسان إذا فقد الأصدقاء الذين يثق بهم، شعر بالإقصاء والوحدة وافتقر للحكمة، ومال إلى التهور، مما يزيد من احتمالية تورطه في أزمات مالية وغيرها. وعام 2013 نشرت دراسة كشفت أن السر وراء تحقيق الأهداف طويلة الأمد قد يكون في الأصدقاء الذين نختارهم !فعندما نحيط أنفسنا بأصدقاء يملكون عزيمة قوية، تنتقل إلينا هذه العزيمة وتعيننا على تحقيق أهدافنا.
                          

احتمالية أن تصبح سعيداً تزداد إذا كنت محاطاً بأصدقاء سعداء، وأكبر التأثير يكون إذا كان لديك صديق يسكن على مسافة أقل من 1.5 كم، فتزداد وقتها احتمالية أن تصبح سعيداً بنسبة 25 بالمئة
احتمالية أن تصبح سعيداً تزداد إذا كنت محاطاً بأصدقاء سعداء، وأكبر التأثير يكون إذا كان لديك صديق يسكن على مسافة أقل من 1.5 كم، فتزداد وقتها احتمالية أن تصبح سعيداً بنسبة 25 بالمئة
               

وبعد هذا كله يتجلى مفهوم قول الرسول صلوات ربي وسلامه عليه: (بأن المسلم للمسلم كالبنيان، يشده بعضه بعضا). بل ويمتد تأثير اختيار الأصدقاء عل الصحة والعافية وطول العمر بناءاً عل دراسة أجريت في أستراليا، حيث وجد أن الأصدقاء قد يكون هم سر طول العمر، فقد تمت متابعة 1500 شخص لمدة 10 أعوام، فوجد الباحثون أن الأشخاص الذين لديهم دائرة أكبر من الأصدقاء المقربين عاشوا حياة أفضل بنسبة 22 بالمئة. وفي دراسة عام 2007 تمت متابعة 12000 شخص على مدى 32 عاماً، وجد أنه إذا كان لديك صديق وأصبح بديناً، فإن نسبة أن تصبح أنت بدين مثله تزداد بمعدل الضعف!  ورصدت الدراسة زيادة نسبة الانتحار بأربعة أضعاف إذا كان لديك صديق قد انتحر. وهناك دراسة تؤكد بأن الاقلاع عن التدخين ينتقل عبر العلاقات الاجتماعية، فوجد أنه بحالة إقلاع أحد الزوجين عن التدخين فإن احتمالية ترك التدخين للزوج الآخر تزداد بنسبة 67 بالمئة! 

               

وتثبت الدراسة ما كنا نعتقده بأن السعادة معدية، وأن احتمالية أن تصبح سعيداً تزداد إذا كنت محاطاً بأصدقاء سعداء، وأكبر التأثير يكون إذا كان لديك صديق يسكن على مسافة أقل من 1.5 كم، فتزداد وقتها احتمالية أن تصبح سعيداً بنسبة 25 بالمئة، ولما للصديق من أهمية في حياة الإنسان، أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية اختيار الصاحب والجليس، فأخبرنا بصفات الجليس الصالح والجليس السوء، فقال:(مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير). أخرجه البخاري. فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه وأما أن تجد منه ريحاً طيباً. ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثاً.

                   
ولهذا يجب عل كل واحد منا أن تكون له معايير واضحة بانتقائه لأصدقائه، لأن منهم من يعين ومنهم من يعيق! وكما قيل: (لا تصحب إلا من إن صحبته زانك، وإن حملت مؤونة أعانك، وإن رأى منك ثلمة سدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن سألته أعطاك، وإن تعففت عنه ابتداك، وإن عاتبك لم يحرمك، وإن تباعدت عنه لم يرفضك). ولذلك عظم الله الصداقة والصديق في حياة المسلم، ففي الحديث الذي يرويه الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم عن ربه يقول: (وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ). رواه الترمذي. فالصداقة رأس المال، والقوة في وقت الضعف، والأمن في وقت الخوف، والطاقة في وقت الوهن. فعليك بالصديق الصادق الصدوق في صداقته.
___________________________________
من المصادر:
https://news.harvard.edu/gazette/story/2017/04/over-nearly-80-years-harvard-study-has-been-showing-how-to-live-a-healthy-and-happy-life/

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.