شعار قسم مدونات

الوسطية والاعتدال.. الطريق لفهم معاني الإسلام

Blogs-praY

الوسطية حق وعدل وخير ومطلب شرعي أصيل ومقصد أسمى ومظهر حضاري رفيع، فهي أفضل الأمور وأنفعها للناس، كما أنها الاعتدال في كل أمور الحياة ومنهجها. وهي الاستواء والاستقامة والتوسط بين حالتين، بين مجاوزة الحد المشروع والقصور عنه. والوسط لغة بين طرفي الشيء. وجاء في الحديث "خير الأمور أوسطها" وواسطة القلادة الجوهر الذي في وسطها وهو اجودها. الوسطية، توسط بين الطرفين وهو ما يعبر عنه لغة بالاقتصاد، أي موقف الوسط والاتزان، فلا إفراط ولا تفريط.

        

قال الله تعالى:" ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ "فاطر 32، ولا شك أن دين الإسلام دين توسط واعتدال، دين حق وعدل، دين رحمة وسماحة، دين محبة وإخاء قال الله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ " البقرة 143، فالوسطية اختيار من الله لهذه الأمة ومنهج الله فيهم تكريم منه سبحانه لتحقيق الأمن والسلام بين الأفراد وزرع الثقة والطمأنينة والإحساس بالآخرين وتحقيق التعاون والتكافل بين الأغنياء والفقراء.

              

إن الحياة الهادئة لا تصلح بغير توسط في الأمور وإن التوفيق بين متطلبات الدين وشؤون الدنيا والمصالح العامة والخاصة أمر مرهون بتوافر القدرة على انجاز المهام كلها. الوسطية تعني أيضا الاعتراف بحرية الآخرين ولا سيما الحرية الدينية، وذلك ما شرعه الإسلام في قوله تعالى " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ "البقرة 256. والوسطية جمع بين المادي والروحي وتلك ميزة الإسلام، ذلك أن للإنسان جسد وروح لقول الله تعالى " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" القصص 77.

                

لقد ظهر الإسلام لا روحياً مجرداً، ولا جسدياً جامداً، بل إنسانياً وسطاً بين ذلك، يأخذ من كلٍ بنصيب، فتوافرت له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره.. ولذلك سمي
لقد ظهر الإسلام لا روحياً مجرداً، ولا جسدياً جامداً، بل إنسانياً وسطاً بين ذلك، يأخذ من كلٍ بنصيب، فتوافرت له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره.. ولذلك سمي "دين الفطرة"
             
والوسطية اعتدال بين الإغراق في الدين أو الذوبان في الروحانيات أو الإقبال على الدنيا وشهوتها، وهي استواء واستقامة في الاعتقاد والسلوك والمعاملة والأخلاق وهذا يعني أن الإسلام بالذات دين معتدل غير جانح ولا مفرط في شيء من الحقائق فليس فيه مغالاة في الدين ولا تطرف ولا شدود في الاعتقاد ولا تهاون ولا تقصير ولا استكبار ولا خنوع أو ذل وخضوع وعبودية لغير الله، ولا تعصب ضد الآخرين ولا رفض لهم ولا اكراه أو إرهاب أو ترويع بغير حق كما لا إهمال في دعوة الناس الى دين التوحيد بالحكمة و الموعظة الحسنة وهو الدين الأيسر والأسهل، والأبعد عن الشدة والقسوة كما قال الحق سبحانه "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ "البقرة 185 وقال أيضا "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ " الحج 78.

              

فالناس جميعا خلق الله، واقتضت حكمة الله أن يكون فيهم المؤمن والكافر الشقي والبر، المحسن والمسيء، المؤمن والمنافق، العادل والظالم… وكل ذلك من مظاهر التكامل البشري "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " يونس 99، فالوسطية تعامل حر بريء من غير إضمار حقد أو شر لذلك كان الجهاد في الإسلام يراد به الدفاع عن حرمات الإسلام والمسلمين ولا يقصد به حمل السيف بظلم ضد الآخرين أو قتل نفس بريئة أو ترويع الغير أو اجبار للدخول في الإسلام. وأطلق لقب الوسطية على المدرسة التي لا تغفل النصوص الجزئية من كتاب الله ومن صحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي ظهرت مقابل "المعطلة الجدد" الذين يزعمون أن الدين جوهر لا شكل، وحقيقة لا صورة، فيسرفون في تأويل آيات الكتاب على غير وجهها، وبين "الظاهرية الجدد" الذين يقفون عند ظواهر النصوص ويفهمونها فهما حرفيا بمعزل عن مقاصد الشرع وعلل الأحكام وحكمها. وهذه المدرسة هي التي تبنت ترشيد الصحوة الإسلامية، ودافعت ولا تزال تدافع في أوساط الشباب عن قيم الإسلام الثابتة.

         

تعد الوسطية في كل الأمور من أهم مزايا المنهج الإسلامي فليست معنى مجرداً بل سلوكاً ومعاملة ومنهجاً فكرياً ينبغي التعامل به، ولعلنا اليوم أحوج اليها من أي وقت آخر

فالخطاب الإلهي خطاب ثابت في منطوقه، متحرك في دلالته، وبالتالي ضرورة إنتاج قراءة جديدة تنتقد شروط القراءة القديمة للخطاب الديني وتتوافق مع المتطلبات العصرية والحضارية. فمن تأمل المنهج الذي جاء به القرآن الكريم وتتبع أحكام الشريعة وما دعا إليه الحبيب صلى الله عليه وسلم في كل مجالات الحياة، يجد الاعتدال واضحا، فقد كان عليه الصلاة والسلام يتمثل الوسطية والاعتدال في شخصيته وسماته وأفعاله فكان حليمًا، لكن الحلم الذي لا يصل إلى الضعف، فإن تطلب الأمرُ قوة وشجاعة كان كذلك. وكان كريمًا سخيًّا، لكن الكرم والسخاء لا يقوده إلى التبذير والإسراف وكان حييًّا شديد الحياء، لكن الحياء لا يمنعه من الجرأة في تعليم الناس أمور دينهم. وهكذا سائر الخصائص والسمات. وأخبر محمد صلى الله عليه وسلم أن الله بعثه بدين وسط، دين تتجلى فيه السماحة والاعتدال، لذا فقد قال عنه: "بُعثْتُ بالحنيفية السمحة".

          

ونلمس معاني الوسطية في مواضع لا تكاد تحصى من سيرته عليه الصلاة والسلام، وثبت أنه "ما خُيّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً"، وقد روى أنس رضي الله عنه: "أنه جاء ثلاثة رهط إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالُّوها، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني."

        

يقول الشيخ محمد عبده: "لقد ظهر الإسلام لا روحياً مجرداً، ولا جسدياً جامداً، بل إنسانياً وسطاً بين ذلك، يأخذ من كلٍ بنصيب، فتوافرت له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره.. ولذلك سمي: دين الفطرة"، وتعد الوسطية في كل الأمور من أهم مزايا المنهج الإسلامي فليست معنى مجرداً بل سلوكاً ومعاملة ومنهجاً فكرياً ينبغي التعامل به، ولعلنا اليوم أحوج اليها من أي وقت آخر، ذلك أن التعصب والتطرف أبعد البعض عن فهم المعنى الحقيقي للإسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.