شعار قسم مدونات

بغير هكذا عشق.. لا تكن

blogs الحب

من أين نأتي بكل هذه القوة حين نقرر كسر أجمل الأشياء فينا، وما سر الضعف الذي يسكننا عند التفكير بالعودة وترميم كل ذلك الخراب الذي أحدثناه بداخل بعضنا البعض!

 

كل شخص يمتلك إجابة مختلفة على هذا السؤال، وغالبنا لديه أسبابٌ مُقنعة لتجنب الضعف وممارسة مهنة الصلابة والقسوة حين ينهش الحب ما تبقى من الفرح في قلوبنا. البعض يقول إن أحدهم لا يستحق أن أضحي من أجله، والبعض يتألم من كلمة قاسية أو شك في غير موضعه، أو موقف خُذلَ منه، ونتيجة لكل تلك الأشياء دربوا أنفسهم على القسوة، لأنهم حين احتاجوا إلى كتف يسندون رؤوسهم المتعبة إليه لم يجدوا سوى الرفض والغياب، هم الذين ظنوا يوما أن الحب لا يعني سوى ذلك السند الهائل لهم أينما كانوا، فتعلموا بمفردهم الشجاعة في بتر آلامهم، في الوقت الذي يُجبرهم كل شيء على الانكسار، ووصلوا إلى قناعة بأن نتيجة الصبر هي أن تظل "تسامح من تُحب حتى تكره بقناعة"، وكما أن السعادة لم تدم مع هذا الحب فلن يدوم الحزن بدونه أيضا.

 

‏أفهمكم جميعا، لكن أي من هذا العشق كان صادقا لا ينشد سوى نفسه حتى لو كانت الظروف المحيطة به قاسية؟ العشق هو استمرار للعطاء بلا انقطاع، والقوة تصدر منه وليس عليه، ثم إن مفهوم الضعف فيه لا يعني الانكسار بقدر ما هو سمو الإنسان عن صغائر الأمور لترميم أعمق الجراح التي يُحدثها فينا.

 

القوة التي يمنحك إياها العشق تعني الأمان والراحة النفسية التي تصنع منك شخصا مبتسما متسامحا ولطيفا حتى في أشد أوقاتك ألما، وهي ذاتها التي تُعينكَ على حمل عبء الأشياء التي تفقدها وتفتقدها في الحياة
القوة التي يمنحك إياها العشق تعني الأمان والراحة النفسية التي تصنع منك شخصا مبتسما متسامحا ولطيفا حتى في أشد أوقاتك ألما، وهي ذاتها التي تُعينكَ على حمل عبء الأشياء التي تفقدها وتفتقدها في الحياة
 

العشق قوة وضعف في آن واحد، يمنحكَ طاقة وسعادة تُمكنانكَ من الوقوف على قدميك ومواجهة العالم بما فيه من طغاة وأوغاد، قوة تُمكنكَ حتى من الموت وأنت مبتسم، لأن جدار المشاعر الذي تستند إليه يكون لك ظلا وحماية.

 

القوة التي يمنحك إياها العشق تعني الأمان والراحة النفسية التي تصنع منك شخصا مبتسما متسامحا ولطيفا حتى في أشد أوقاتك ألما، وهي ذاتها التي تُعينكَ على حمل عبء الأشياء التي تفقدها وتفتقدها في الحياة.

 

هذه القوة لا معنى لها إن لم يرافقها الضعف، والضعف في الحب لا يكون فقط بالاستسلام إلى المحبوب والانصياع لرغباته أو التنازل له، لأن هذه الأمور إن لم تأتِ بالرضا والقناعة فلن تدوم، وسنظل نُطالب بمقابلٍ لها، الضعف في الحب لا يكون إلا حين تضعك الحياة في خيار بين البقاء أو الرحيل، وإن اخترت الرحيل، ثم مرت سنوات وظل افتقادك يمزقكَ وحدك، وكبرياؤك يمنعك من البوح بما أنت غارق فيه من احتياج للمحبوب، وبما يثقل روحك في غيابه، رافضا الاعتراف بفتور العيش وسخافة كل ما يمر بكَ ومنكَ وفيك، وبقيت تكابر، فاعلم أنك فشلتَ في اختبار العشق الحقيقي واستخدمت القوة في غير مكانها، إنكَ تقتل الحب في قلبك، وتقضي على السعادة من حياتك. أما إن ذهبت بكامل ضعفك نحو إحساسك، فستكتشف قيمة المحبة الحقيقية ولذة الضعف حين يُسيطر على أكثر قراراتك حزما، ولن تعود إليك مجددا تلك الصباحات التي تكون فيها حتى التحية ثقيلة جدا.

 

الضعف في العشق هو الحقيقة الثابتة فيه، لا تُصدق أن الحُب بالحُب والنسيان بالنسيان والأحمق في العشقِ أظلم، ذلك أن كل شخص فينا يتهور خلال علاقته بالآخر، يتصرف بغباء، وقد يفترق الحبيبان مرة كل أسبوع "ويقسو الحبيبان قدر الحُب بينهما حتى لتحسبُ بين العاشقين دما".

 

إن شعورك بالندم تجاه المشاعر التي عشتها والقرارات التي اتخذتها والتصرفات التي مارستها يعني أنك تُنكرها، وتدير لها ظهرك، وتعبس في وجه كل شيء كان سببا في ابتسامتك وسعادتك

لا مقياس في الحب. صدقكَ في تصرفاتك بالمواقف الحساسة هو الفارق الوحيد، وإلحاحكَ في الحفاظ عليه هو المقياس الأكثر أهمية، لا يمكنك أن تدعي بأن مشاعرك صادقة دون أن تختلف مفاهيمك تجاه الأشياء، ودون أن تكتشف بنفسك بأن القوة التي كانوا يقولون بإنها "ليست دائما فيما نقول ونفعل بل أحيانا فيما نصمت عنه ونتركه بإرادتنا وفيما نتجاهله" لا تعني بالضرورة أن تنطبق على الحبُ، أن تصمت عنه وتتركه ثم تدعي أنك قوي لأنك ضحية، أو ظنا منك أن كل الأشياء التي تنتهي مكتوبة ومقدرة من الله.

 

إن الله الذي وضعك مقابل سعادتك وجعلك تمتلئ بأجمل النِعم وأنقاها "الحُب"، لن يسلبها منك لأنه سبحانه يعرف أن كل مخلوق يستحق إحدى نعمه، ولكنه يختبرنا فيما نُحب لنرى هل نستحق هذه النعم؟ ثم يترك لنا الخيار في تركها أو التمسك فيها، لذلك تجد البعض يخسر في الحُب لأنه لا يعرف كيف يُحب، تماما مثل أن يمنحك الله موهبة ولا تستغلها، فتصبح بلا فائدة في حياتك، ثم تخرج للناس بابتسامة ينزف قلبك خلفها، وبكاء لا دموع معه، وصمت تنوح منه الأصوات التي تلعن وتشتم هكذا حياة، ذلك أن الحياة العادية لن تقتل أحدا لكنها تجعلنا فارغين من كل شيء.

 

جيد أنك أقنعت الجميع بقوتك، ماذا عن نفسك الآن؟ تفضل وأقنعها بأنك غير منكسر، اشغلها عن التفكير بهم، تحدث معها بُحب، وقل لها إن كل شيء بخير وأن غيابهم لم يعد يهزك بعنف، راوغ ذاكرتك حين تقودك قدماك إلى الأماكن التي كانت تجمعكما، وتسمع منها صدى ضحكات كانت تخرج من القلب، أجبر يدك ألا ترتجف حين تلمحهم من بعيد، وقاوم انهيارك عندما تشم رائحة عطرهم، تحمل عناء هذه المهمة الشاقة وحدك، وأجبر كل هذا العشق أن يتركك وشأنك.

 

حتى إن قررت أن تُشوه كل الذكريات فلن تُفلح، ذلك أن شعورك بالندم تجاه المشاعر التي عشتها والقرارات التي اتخذتها والتصرفات التي مارستها يعني أنك تُنكرها، وتدير لها ظهرك، وتعبس في وجه كل شيء كان سببا في ابتسامتك وسعادتك.

 undefined

إن افتعالك للقوة من أجل الابتعاد عن الأشياء التي أحببتها من قلبك يعني أنك الآن لا تفعل شيئا على الإطلاق، لا تنتظر، لا تُحب، لا تقلق ولا تسهر ولا تشعر بطعم أي شيء في حياتك، ثم إنك تتجنب كل الأسئلة الصادقة التي تُلح نفسك عليكَ بها، كأن تقول لك ما قيمة الحياة بلا انتظار نُشفق على أنفسنا فيه؟ ما نفع الحياة بلا حُب يجدد روحك كل يوم، بلا حبيب وبلا ضحكات من القلب، بلا مشاوير بعيدة ومسروقة من أجل لقاء قصير، بلا غيرة تقتلك على شيء تُحبه وبلا إنسان يكون مرآتك، ترى حرصه عليك في عينيه، بلا جنون وهبل وحرية، ما قيمة حياتك بدونهم؟ ما يعني أنه ما قيمة حياتك "بدونك" لأنك أنت بدونهم لا شيء، ذلك أنك تفقد شيئا منك كلما فقدت شيئا منهم وكلما ابتعدتَ شبرا عنهم.

 

لم أجد أصدق من كلمات نائل الحريري حين لعن قوته قائلا "ورجعتُ أحصي كلَّ شبر ضمّنا.. وبقيّة الأنفاس في النّسماتِ.. أحصي الدُّموعَ ولملمات حديثنا.. وأعود ألعن قوّتي وثباتي"، ولم أخجل قط كما خجلت بعد قرآتي لوصف العشق في كتاب المثنوي لجلال الدين الرومي حين قال "العشق هو تلك الشعلة التي عندما اشتعلت أحرقت كل شيء ما عدا المعشوق، وأنتَ بسبب شوكة واحدة تفر من العشق، فماذا تعرف أنتَ عن العشق ما خلا الاسم؟ إن في العشق تدلُّل وتكبُّر واليد لا تصل إليه إليه إلا بعد تدلل كثير منه وأنتَ بإهانة واحدة تفر منه. إن للعشق غربة عن الدنيا والآخرة، وإن للعشاق موتا في كل لحظة".

 

ليت هذا العشق ينتهي بقول انتهى يا صديقي، هذا القلب عنيد، ولا يصغي إلى عقولنا، طفل أحمق، كلما أمليتَ عليه أوامرك بالابتعاد، يأخذ نفسا عميقا ويمضي عكس إرادتك ويقترب. دعكَ من الهرب، دعكَ من الكبرياء، أنت لا تستطيع أن تبتعد ولو بمقدار نفس.. نفس صغير كذاك الذي تحبسه بين شهيق وزفير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.