شعار قسم مدونات

قيادة المرأة للسيارة.. تلاشي الفتاوى المقدَّسة!

blogs قيادة السيارة

باعتبار الفقه الإسلامي محكومًا في الأساس بالنص الشرعي المتمثل في القرآن والسنة النبوية، ومعتمِدًا في طرق الاستدلال (استخراج الأحكام) على اللغة العربية، ومنضبطًا بقوانين العقل الإنساني المشترَك (أو ما نُسمِّيه بالمنطق) فإن الناظر في مسألة "قيادة المرأة للسيارة" لن يُرهِق ذهنه كثيرًا بل ولن يدخُل في نقاش هذه المسألة لأنها حقٌّ شرعيٌّ لا مكرُمةَ فيه لفقيه أو مجتهدٍ، تماما كسائر الحقوق الطبيعية التي لم يأتِ الشرعُ إلا بتثبيتها أو تنظيمها في أبعد الحالات.

 

لذا.. فإن العَجَبَ لا ينقضي من منتسبي الفقه على الطريقة الحنبلية الذين حرَّموا طيلةَ عقودٍ قيادة النساء للسيَّارات، لأنها فتوى خارجةٌ عن المعقول والمنقول ولا تعتمد أيَّ أساس شرعيٍّ في التحريم، بل هي أشبهُ بالنظر الشخصي الذي يتمتَّع صاحبُهُ بخلفيَّةٍ بدوية غير حضريَّة بَلْهَ أن تكون حضارية، وإذْ هو مجرد نظرٍ شخصيٍّ فلا يحتاج مزيدا من الوقت لإطالة الكلام في الردِّ عليه وتبيين وَهْم أصحابه.

  

العقيدة كما حفِظها أتباع الفقه التقليدي
العقيدة كما حفِظها أتباع الفقه التقليدي "تتغير بتغيُّر الزمان والمكان"، و"قرار وليِّ الأمر" يرفع الخلاف في الفتاوي، أو الأصح أن نقول: القرار الملكيُّ هو أكثر النصوص "الشرعية" قداسةً وحسمًا لمادة الخلاف الفقهي
 

ليبقى الأمرُ في النهاية راجعًا إلى التفاهم بين المرأة ووليِّ أمرها -زوجًا كان أو أبًا- ليس في إباحته وتحريمه بل في استعارة سيارته فحسبُ، فلها كامل الحقِّ أن تقتني سيارتها الخاصة من مالها الخاص أو من مال زوجها إذا كان يمكنه ذلك، ولا يحِقُّ له منعها من اقتناء السيارة كما لا يحِقُّ له منعُها من التصرف المطلق في مالها أصلًا، وفوق ذلك لا يجوز له أن يمنع عنها نفقتَها وإن كانت تملك قناطيرَ مقنطَرةً من الذهب والفِضَّة، وهذه الأحكام مقرَّرةٌ في الشريعة الإسلامية من خلال عدة نصوص أذكُرُ منها ما يلي:

1- قوله تعالى: "وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا"، هذه الآية تنصُّ على ألا يحِقُّ للرجل الأخذُ مال زوجته إلا إذا برضًى منها وقَبول، وهذا يدل بوضوح على أن مالَها حقٌّ لها دون أي منعٍ من طرف الزوج، فإذا كان حقًّا لها فلها التصرُّفُ فيه كيفما تشاء، وإذا أراد المرأة اقتناء سيارةٍ لها فلا يصحُّ له منعها.

2- تجارة السيدة خديجة -عليها السلام- فلو كان ذلك حرامًا لبيَّن الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- فيما بعدُ أنه لا يحِقُّ للنساء التصرُّفُ في أموالهنَّ.

وسيطول الكلام لو استحضرتُ جميعَ النصوص الدالَّة على هذا الحقِّ الطبيعي الشرعي للمرأة في اكتساب المال الخاص بها وتصرُّفها المطلق في مالها ذلك دون أخذِ إذْنٍ من أحدٍ سواءٌ كانت له الولاية عليها بالأُبُوَّة والزواج أم لم تكن له ذلك كالأخ والابن وغيرهما.

ولكنَّ الأغربَ من كل ذلك ليس هو تحريم شيوخ السعودية لقيادة المرأة للسيارة؛ بل هو أنهم بالغوا في ذلك التحريم حتى يتصوَّرُ قارئ فتاويهم أنه بصدد الحديث عن كبيرة من الكبائر أو فاحشة من الفواحش التي تستحقُّ العقاب في الدنيا والآخرة.

 

قال الشيخ ابن باز -رحمه الله- المفتي العام السابق للمملكة السعودية والرئيس السابق لهيئة كبار العلماء: "الشرع المطهر منع جميع الأسباب المؤدية إلى الرذيلة بما في ذلك رمي المحصنات الغافلات بالفاحشة، وجعل عقوبته من أشد العقوبات صيانة للمجتمع من نشر أسباب الرذيلة، وقيادة المرأة من الأسباب المُؤَدِّيَة إلى ذلك وهذا لا يخفى، ولكن الجهل بالأحكام الشرعية وبالعواقب السيئة التي يفضي إليها التساهل بالوسائل المُفْضِية إلى المنكرات مع ما يبتلي به الكثير من مرضى القلوب من محبة الإباحية والتمتع بالنظر إلى الأجنبيات، كل هذا يسبب الخوض في هذا الأمر وأشباهه بغير علم وبغير مبالاة بما وراء ذلك من الأخطار" اهـ (الموقع الرسمي).

قد يتحوَّلَ التحريم الشديد للفعل ليُصبِحَ بين عشيةٍ وضحاها "من الأمور المباحة" مختومًا بـ "حفظ الله خادم الحرمين الشريفين الذي يتوخى مصلحة بلاده وشعبه في ضوء ما تقرره الشريعة الإسلامية

هذا نصُّ كلامه الذي كان أتباعُهُ وأتباع الطريقة الحنبلية في الحجاز يؤمنون به كأنه نصٌّ مقدَّسٌ لا يجوز مخالفتُهُ، فكانوا جميعًا يعتبرون قيادة المرأة للسيارة من أسباب الرذيلة ورمي المحصنات وطريقًا للإباحية وخطرًا على المجتمع.. نعمْ؛ هكذا بالضبط كانت عقيدتهم.. فالآن بعد المرسوم الملكي الذي "أجاز" قيادة المرأة السعودية للسيارة هل ستتبدَّلُ عقيدتهم الراسخة رسوخَ الجبال؟ وهل ستصبح قيادة النساء للسيارات سببًا من أسباب الفضيلة وتبرئةً للمحصنات وطريقًا إلى الخير والشرف وحسنةً تضافُ إلى المجتمع السعودي؟

يبدو ذلك صحيحًا؛ فالعقيدة كما حفِظها أتباع الفقه التقليدي "تتغير بتغيُّر الزمان والمكان"، و"قرار وليِّ الأمر" يرفع الخلاف في الفتاوي، أو الأصح أن نقول: القرار الملكيُّ هو أكثر النصوص "الشرعية" قداسةً وحسمًا لمادة الخلاف الفقهي.

في الأخير؛ أنتظر اختفاء عشرات الفتاوي من مواقع الطريقة الحنبلية والتي كانت تُحرِّم تحريمًا قاطعًا أن تقود امرأةٌ سيَّارةً أمام الشعب الملائكي، فتجديد الفقه قد يعني أن تتحول أمريكا من راعية للغزو الصليبي إلى قائدةٍ للسلام والأمن في العالَم، وقد يعني أن يتحوَّلَ التحريم الشديد للفعل ليُصبِحَ بين عشيةٍ وضحاها "من الأمور المباحة" مختومًا بـ "حفظ الله خادم الحرمين الشريفين الذي يتوخى مصلحة بلاده وشعبه في ضوء ما تقرره الشريعة الإسلامية"، أي:

 

الشريعة الإسلامية التي كانت ترى "أن ذلك لا يجوز، لأن قيادتها للسيارة تؤدي إلى مفاسد كثيرة وعواقب وخيمة منها الخلوة المحرمة بالمرأة ومنها السفور ومنها الاختلاط بالرجال بدون حذر، ومنها ارتكاب المحظور الذي من أجله حرمت هذه الأمور والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية إلي المحرم واعتبرها محرمة، وقد أمر الله جل وعلا نساء النبي ونساء المؤمنين بالاستقرار في البيوت والحجاب، وتجنب إظهار الزينة لغير محارمهن لما يؤدي إليه ذلك كله من الإباحية التي تقضي على المجتمع"!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.