شعار قسم مدونات

الحروب.. تصنع الأطفال أبطالا أم تفتك بهم؟

blogs أطفال الحرب

لا أحد يتمنّاها ولا يحبها أي أحد من العاقلين، بل ويتوارى عن تأجيج نارها كل إنسان راجح العقل وصحيح الفطرة، ولكن إن أصبحت مفروضة عليه وإن أُجْبر عليها فوجب أن ينظر من خلالها إلى المستقبل ويصنع بها عالمه الخاص.

 

ولنا من غزة شاهد بل شواهد، هي التي قال عن حربها الأخيرة أحد الصهاينة: "نحن نقاتل أفاعي الانتفاضة الأولى" وقد صدقنا وهو كذوب. بالفعل الذين حفروا الأنفاق تحت الأرضِ بِمساربها المتعددة بتعدد المستخربات هم الذين كانوا يحشرون الحجارة بجانب الكتب في حقائبهم ذات انتفاضة حصلت في أواخر الثمانينيات، لكي يفرغوا تلك الحجارة لهذه السنوات، فيرصفون بالحجارة سقوف الأنفاق وبالكتب يعيدون تفهيم العالم أن هنالك فارقا كبيرا بين الجهاد وغيره.

 

لو رجعنا بالذّاكرة إلى الذين كانوا في طُفولتهم المبكرة وقت أحداث حمص وحماة في أول الثّمانينيات، سَنرى أنّ تأثير الحرب على الأطفال في سُوريا كان إيجابيا بشكل واضح، وهذا يظهر عندما ننظر إلى الذين شاهدوا بعيونهم في أحداث الثّمانينياتِ في حمص وحماة ما فعلته العائلة الأسدية بالعائلات من اغتصابات وهتك للأمّهات أمامَ أبنائِهنّ في ساحات حمص وحماة، أمام الأطفال الذين كانوا يناظرون الدّم من خلف النوافذ.

 

الذين شاهدوا مناظر الهدم لأسرهم في الانتفاضة الثّانية في أواخر الثمانينيات، كانوا يرقبون الدمار بعيونهم ويخزّنون الدمار في ذاكرتهم الصورية وكانت مشاعر الحقد تنضج وتنمو مع أعمارهم
الذين شاهدوا مناظر الهدم لأسرهم في الانتفاضة الثّانية في أواخر الثمانينيات، كانوا يرقبون الدمار بعيونهم ويخزّنون الدمار في ذاكرتهم الصورية وكانت مشاعر الحقد تنضج وتنمو مع أعمارهم
 

وبدأ الثأر يكبر مع الأطفال الذين ما تناسوا ولو للحظة ما حصل مع أرحامهم، حتى إذا بلغ الثّأر مغرب الشّمس قاموا يُشعلونها معفّرين وجوههم بالتّراب الذي اختلط بتلك الدماء ذات زمان، ولم يكن نشيدُهم عن بشار، بل كان لعنة لروح حافظ الأسد لأنها روح قذرة تلك التي أمرت بأن تُسحل نساء الحرائر في زمن مضى ولم تمضِ صورته النتنة من عقولهم… فقام الثوّار يعيدون الكرّة مرة أخرى على ما كان في مِخيالِهم القديم.

 

والذين شاهدوا مناظر الهدم لأسرهم في الانتفاضة الثّانية في أواخر الثمانينيات، كانوا يرقبون الدمار بعيونهم ويخزّنون الدمار في ذاكرتهم الصورية، وكانت مشاعر الحقد تنضج وتنمو مع أعمارهم التي كانت مسبوقة بنضج عقولهم وقلوبهم، لأنهم الجيل القرآني الفريد الذي استطاع أن يؤسس لقول "لا" في وجه من قالوا "نعم".

 

فالقرآن وهو كتاب التّربية المطلق صِدْقُهُ يُحدّثنا في مطلع سورة القصص عن فرعون وهامان وجنودهما، وفي ذات السياق يذكر جيل الاستخلاف الذين سيقضّون مضجع هذه الأصنام بقوله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ" ومباشرة يجيء التّوقيع الإلهي في الآية الملاصقة للآيات بقوله تعالى: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ"  فالإشارة هنا الى أن صناعة قيادات الاستخلاف تبدأ من مرحلة الرّضاعة، والنّموذج التّطبيقي للآية في قصة موسى عليه السّلام الذي تربى منذ رضاعته في بيت فرعون الطّاغي وسط الإجرام، وفي قلب المكان الذي سيكون منصته للتغيير ذات حوار كان التّأسيس له في المكان إياه الذي كان الكثيرون يظنّون أنهم إن ولجوا إلى هذا المكان لا يخرجون أحياء منه.

 undefined

ومن مدرسة الصّحابة الكبار نأخذ ابن أبي رباح أنموذجا، حيث كان يلتقطُ بذاكرته البصرية مناظر القهر وكبتِ الأصواتِ عند أمية بن خلف، فكانت تلك الصّور من القهر هي المعينةُ له لكي يقوم برفع الحجر عن صَدْرِهِ ليرفع الأذان من على ناصية الكعبةِ، وبين رفع الحجر ورفع الأذان كان بلالُ يُجْهِزُ على أميةَ في لحظة انتقام عادلة.

 

إن صور التّشريد والفتك والبطشِ التي تُراوح مكانها عبر الشّاشات ووسائلِ التّواصل الاجتماعي تجعلُ التّساؤلاتِ تنهد مُتسائلة عن الله أين هو؟؟ ولم لا يتدخل؟؟ وكيف يَترك عِبادَهُ تَحْتَ مِقصَلَةِ المنكرين لوجوده؟؟ فتجيء الإجابة من النّاظر المتبصر في قصة إبراهيمَ عليهِ السّلام عندما كان يَهوي بالمعولِ على الأصنام فتتهاوى تحت قدميه، ولكنه ذاتُهُ إبراهيم يتناولُ هذه الحجارةَ المنبوذةَ ليشيدَ بها كعبة تصبحُ مكانا لكلّ من يتشبثُ بحجارتِها يفضي إلى قرب من الإله الذي يمكّن لمن يحوّلُ الخسائرَ الظاهرة إلى أرباح غير متناهية.

 

وحُشاشة القول: الحرب التي تقوم لكي تعيد ترتيب الصورة كي يصبح الإنسان إنسانا، هي الحرب التي تصنع من الجيل أجيالا تردد نبضات قلوبها أُسدا تخلّف بعدها أشبالا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.