شعار قسم مدونات

الطغيان وبأس الامتحان

blogs- الكتابة

كانت حياتنا الدراسية حربا طويلة أطول من حرب طروادة وداحس والغبراء والبسوس. لي ذكريات مريرة عن الامتحان، ويقيني أن أحد أسباب حب الإنسان الاستحواذ على السلطان هو الهروب من الامتحان، فالمستبد لا يُسأل وهم يسألون، بل إن المستبد صار موضوعا للامتحان نُسأل عنه: ألقابه، فتوحاته، وخطبه نحفظها كما نحفظ المعلقات وأحسن البيان.

 

إنّ الإلحاد علّته الكبرى إنكار الحساب، أي الامتحان، وإن تحريف العقائد أيضا هو هروب من الساعة والامتحان؛ خذ التناسخ مثلا، والتناسخ عقيدة شائعة عند الهندوس، غرضها الغش في الامتحان، وهي وسيلة هروب من الله ومن يوم الدينونة والديان، فهي غير إنسانية لاعتبارها أن أصحاب العاهات يعاقَبون على سوء أعمالهم بالمسخ في النسخ، وهي طبقية في الهند وفي غيرها أيضا.

 

ما يهمنا هنا هو الامتحان الذي نتدرب عليه يوميا عشرات المرات، وليس امتحان اليوم الآخر، لا يخلو يوم من أيامنا من اختبار أو امتحان؛ فمضغ اللقمة وبلعها امتحان قد نخطئ فيه ونرسب، واجتهادي يذهب إلى أن المدرّس صار نسخة من رئيس الدولة ورئيس السجن. الناس على دين ملوكهم المنسوخين في هيئة ذئاب أو خصيانهم في هيئة حملان.

 

الطلاب يخوضون حربا مع الأعداء المدرسين الذين يحفرون لهم الكمائن وينصبون لهم المكائد، وكان العلم هو الضحية، فالامتحانات غير مبدعة؛ فهي تعتمد على الحفظ لا الاستنباط

وأذكر أن مدرس علوم قدير، كان يستخدم الامتحان للتعليم، فيسألنا في أول الدرس سؤالا يشغلنا به ليحثنا على التفكير، وأذكر أنه سألنا مرة عن التثفيل؛ والتثفيل مصطلح علمي، وهو التعريض لحركة دوران شديدة، لكن أكثر المدرسين المسلحين بالعصي والهراوات، والعلم والمعرفة، كانوا يحبون تحويل الامتحانات إلى معارك ينتصرون فيها على الطلاب والتلاميذ العزل ذوي الصدور العارية.

 

فوجئنا مرة بمعلم التثفيل يمتحننا باختبار من نوع؛ صح أو خطأ، والخطأ فيه يُذهب الصح، هذا يعني أن الخطأ مضاعف، وتلك قسمة ضيزى. ومدرس للغة العربية كان يأتي بورقة الأسئلة مكتوبة على ورقة تجليد ورقاء تقبل كتابة أقلام الطباشير، وكنا صغارا نجلّد الكتب تجليدا مضاعفا، نايلون شفاف، ومن تحته ورق أزرق حاجب يخفي حُسن الغلاف، وتلك قسمة ضيزى. وعلق الأسئلة في لحظات، ذلك حتى يحرمنا من نعمة الغش في لحظات الكتابة القصيرة على اللوح بالتلصص على الكتب، وهو دائر ظهره للخصوم الطلاب.

 

وكان من حصائل قسوة الامتحانات أنها حوّلت كثيرا من الطلاب إلى الاشتغال في علوم الصيدلة والعقاقير، فعكفوا على كتابة "الروشتات"، وهي أوراق صغيرة مثل وصفات الأطباء، تدوّن عليها معلومات مهمة متوقعة بخط صغير، وتدسُّ في الأكمام والجيوب ونخور الأسنان لمداواة آلام الأسئلة الصعبة في ساعة العسرة.

 

رأيت صورة من الهند لطلاب عراة سوى من ورقة توت، مثل طرزان في الأدغال، جالسين على الأرض في ساحة بيداء مكشوفة، بين الطالب والطالب بون شائع منعا للغش، وصورة لطلاب يتسلقون الطوابق العالية كالمسعادين، لمساعدة أصحابهم وأهلهم في الغش وتهريب الأجوبة.

 

في هذه الأيام، تُرفض الشهادات السورية في أوروبا بسبب شيوع الغش في الحرب، فإذا كان القتل قد انتشر واستحرّ، فالغش أدنى منه وأولى. وفي بداية عهد الأسد، كان الامتحان يشبه العسكرية؛ فالجنود يراقبون الامتحانات مسلحين، وبأيديهم الرشاشات والأسلحة الحربية، ثم يحدث أن تحضر سيارة مرسيدس، وهي سيارات حكومية عادة، يأمر أصحابها المراقبين همسا بتسهيل الغش والنقل. "أي حركة ح أضرب في المليان، المدرسة كلها محاصرة، ولا نفس". والجميع يشفق على الطلاب. الطالب مثل المريض في بلادنا، وأحيانا الأسير، والمسكين، وفي الرقاب.

 

فالطلاب يخوضون حربا مع الأعداء المدرسين الذين يحفرون لهم الكمائن وينصبون لهم المكائد، فالتبس عصر الأسد بالأمرين؛ الغش والقسوة. وكان العلم هو الضحية، فالامتحانات غير مبدعة؛ فهي تعتمد على الحفظ لا الاستنباط. والتقارير تبين أن الحال واحد في جميع الأقطار العربية المربوطة إلى حمار يجرها نحو هاوية التقدم والاشتراكية.

 

وعرفت مصادفة في أواخر الألفية الثانية، أن طرطوس، وهي محافظة سورية، ترتيبها هو السابع في سوريا سكانا، باتت الأولى في التقدم العلمي والدراسي، فالغش فيها أكثر سهولة، أو العناية أكثر لمن شاء تبريرا. أما سبب تقدم طرطوس العلمي فهو السمك الذي يزيد الذكاء الصناعي والطائفي والعسكري، ولابد أن الأسد والسيسي أكلوا سمكا كثيرا وجمبري حتى سادوا!

 

كان شارلي شابلن يقول: إن أي فلم فيه طفل وكلب يضمن علامة النجاح، وكانت الأفلام الإيرانية تنجح في امتحان الجوائز، مع أنها خالية من الكلاب

ومن طرائف الامتحانات أن مدرسا في كلية الهندسة كان يكتب الأسئلة بخطه كجميع المدرسين في عصر لم يكن الحاسوب معروفا بعد، والآلة الكاتبة غالية الثمن وتحتاج إلى براعة ووقت. خطه كان يقرأ بصعوبة لرداءته، فنحاول حل الأسئلة العضال اللغزية من غير جدوى، لأن المعطيات اللازمة للحل ناقصة، ثم يحضر المحاضر صاحب المادة بعد ساعة، والامتحان مدته ثلاث ساعات فيقول: بشرى سارة لكم، سأعطيكم معلومة تساعد على الحل شفقة بكم وصدقة على جدتي المرحومة، ويعطينا إحدى المعلومات اللازمة للحل التي لولاها لما حُلّتْ، لأن الأفندي نسيها في النص ويكابر على الاعتراف بخطأ النسيان.. فرحمة الله على جدة المدرس المتخرج مثل الأسد من بلاد جيمس بوند، و"يبشبش" الطوبة التي تحت رأسها.

 

ثم سعدت بمعرفة الامتحان المفتوح، وهو الذي يُسمح فيه للطالب بإدخال ما يشاء من كتب واستخراج الأجوبة، ولا حاجة في هذا الامتحان للمراقبين، والغريب أن بعض الطلاب المتفوقين لم يكونوا يحتاجون إلى فتح الكتب، وبعض الطلاب كانوا يعجزون عن تحصيل علامة واحدة، حالهم:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما—– والماء فوق ظهورها محمول

 

لنعد إلى أواصر القربى والرحم بين الاستبداد والامتحان، إلى أيام الطفولة والصبا، والأفلام الإيرانية رأتْ في الطفولة كنزا ناقصا والدهر ينفد، فكثير من أبطال أفلامهم الفائزة بالجوائز العالمية أطفال. كان شارلي شابلن يقول: إن أي فيلم فيه طفل وكلب يضمن علامة النجاح، وكانت الأفلام الإيرانية تنجح في امتحان الجوائز، مع أنها خالية من الكلاب.

 

ومن ذكرياتي من أيام الطفولة أن مدرّسا لنا كان شديدا رهيبا، يسأل دائما أسئلة من خارج المنهاج، ولم يحدث أن أجاب تلميذ عن الأسئلة كلها، كانت العلامة الكاملة محرّمة في اختباراته وفحوصه، ثم عرفنا بالتدرب والخبرة أنه كان يسأل الأسئلة نفسها لبقية الشعب المدرسية، فاحتال زميلنا عبد الرحمن على أحد الزملاء من الشعبة الثانية ليبوح له بالسؤال الذي سيسأل مشافهة، فامتنع، فالرهاب كان شديدا، وكان للمدرس الرهيب عين الصقر وأذن البومة وحاسة شم الكلب ابن الكلب، إلى أن أشفق عليه الزميل وكشف له السؤال، وكان إعرابا لكلمة في صدر بيت شعري.

 

وجاء دور صفنا، وسأل المدرس الرهيب السؤال فعجز الجميع، وكان يفرض عقوبة جماعية على الطلاب عند العجز ويعفو عن الجميع إذا أجاب أحدنا جوابا صحيحا، وعرفنا لاحقا أن المدرس من مدينة نكّل الرئيس بأهلها تنكيلا، وأنه تم تعذيبه عذابا نكرا، ولعله أقسم على الانتقام من الدنيا بأسرها، وعند السؤال لبث صاحبنا عبد الرحمن قليلا متخذا وضعية المفكر، فتأخر في الجواب، وأجاب خطأ ليوهم المدرس بعمل فكره والاجتهاد، ثم صحح الجواب وأصاب في المرة الثانية، لكن المدرس اللئيم  كان له بالمرصاد، ولم تنطلِ عليه الخدعة فاعتقله وجرّه من المقعد بالجرم المشهود، واتهمه  بالتواطؤ مع الشعبة الثانية ومعرفة السؤال وجوابه، وأخذه مخفورا إلى الشعبة الثانية حتى يقر باسم التلميذ الذي علمه السحر، ووقف عبد الرحمن أمام التلاميذ في الشعبة الثانية وكأنه على منصة الإعدام.. لا عاصم اليوم من أمر الله.

وكان قد أقسم لزميله على حفظ العهد وكتمان السر، ولابد أن صاحبه الذي باح له بالتعويذة العلمية كان غارقا في العرق، ويتنفس من غلاصمه، وأن قلبه كان يضرب مثل الطبل الأفريقي، لكن عبد الرحمن احتال بذكائه، وأشار إلى تلميذ بريء شريف من علية القوم، فنهض المتهم البريء -هو حاليا طبيب في أمريكا التي هرب إليها أطباء سورية بحكمتهم وطبهم- وأقسم إنه بريء، وكان صادقا، وكانت حصيلة تلك اللحظات الرهيبة أن انتهت بسلام، فالمدرّسة في الشعبة الثانية ضاقت بالمدرس واستطاعت برقتها ثني المدرس الجلاد عن متابعة العقاب.

 

أحيانا نرى في التقارير الإخبارية مدرسين مبدعين في التعليم، انتشرت أساليبهم في تقارير إخبارية عالمية، وهم قلة نادرة، لأن الدول الوطنية عملت على تدمير التعليم بأسلحة التدمير الشامل، وأكثر الأسلحة دمارا هي حبّ الرئيس

وكان لنا زميل بارع في النحو والإعراب، يتواطأ معه الزملاء على الغش بالإشارة، حسب ترتيب الكلمة المطلوب إعرابها في ورقة الامتحان؛ فإذا كان إعراب الكلمة الأولى فاعلا رفع الإصبع الوسطى، وإذا كان إعرابها مفعولا به عمل بسبابته وإبهامه دائرة، هذه الدائرة هي التي أهلكت الأمم والحرث والنسل، وإذا كان إعراب الكلمة مضافا إليه جاور بين السبابة والوسطى، وإذا كانت اسما مجرورا مسح بيده الطاولة مسحا، ثم كان أن صارت البلاد كلها مجرورا للصرف الصحي أعزكم الله.

 

وقد يستغرب القارئ كيف يجهل الطالب الفاعل والمفعول به، ولا غرو، فالرؤساء الأفاضل يخطؤون فيهما، وأكثر ما يخطؤون في الأفعال الخمسة، وهناك رؤساء وملوك يخطؤون في تلاوة البسملة، بل إن بعضهم يعيا عن صياغة جملة صحيحة باللهجة العامية، ولا تنفع معهم إصبع وسطى ولا مسح على الخفين.

 

أحيانا نرى في التقارير الإخبارية مدرسين مبدعين في التعليم، انتشرت أساليبهم في تقارير إخبارية عالمية، وهم قلة نادرة، لأن الدول الوطنية عملت على تدمير التعليم بأسلحة التدمير الشامل، وأكثر الأسلحة دمارا هي حبّ الرئيس.

 

أمس كان صديقي النازح يعنف ابنه على غيابه عن المدرسة الألمانية، فالمكوث في البيت أطيب له مع أطايب اليوتيوب وملذات الفيس بوك، وقال له: لو كان عندي مثل مدرستك الألمانية الجميلة ومثل مناهجكم الطرية كأصابع الست، لمكثت في المدرسة ونمت فيها إلى يوم يبعثون.

 

ومن فجائع الامتحان وطرفه، أني عجزت مرة عن التسمية العلمية القاموسية لآلة  في الجهاز التناسلي عند الذكر في امتحان مادة العلوم الحيوية، وهي آلة الذّرّية والسلالة، والمتعة والندم، وذلك من اضطرابي وخوفي، وكنت أعرف أنها كلمة على وزن فعيل أو فعليل: مثل هبيل، عنتيل، ذليل، جليل، طويل…، فمرّتْ المراقِبة  بجانبي وكانت سيدة ورقاء، وعيّرتني بجهلي عن معرفة ما تعرفه حتى البهائم البكم العجم، فكيف ينسى الإنسان اسم آلة التكوين والخلد الدنيوي الذي تدور حولها الحروب، قديمها والحديث؟ والترجمات تسميه بالعضو الحميم، فرفعت يدي علامة العجز وأنّى لي الذكرى، ثم أشفقتْ عليّ، وانحنت على أذني الوسطى ولقنتني اسمه همسا، فكتبته سكرانا من وجد المعرفة، ونلتُ علامة النجاح، وخلدتْ تلك الآنسة في ذاكرتي طويلا.

 

وبعد أن كبرت شاهدتُ فيلما مصريا يجسّد ما وقع لي ولجيلي من إخصاء من شدة الخوف والضلال، اسم الفيلم "رانديفو"، وفيه تعلّم بنت من بنات الليل الحالك، تكسب رزقها من كدّ الليالي، شبانا طائشين ضالّين مسرفين من الطبقة الحاكمة طريقة الوصل على الفراش، لا في الأندلس، فزمان الأندلس ووصله لن يكون بأمثالنا. وسقى الله أيام الفاتحين الفتيان الكرام: أسامة بن زيد، وأبي القاسم الثقفي، وصقر قريش، عندما كانت المرأة تحبل من قبلة الذكر من وراء سبعة جدران زجاجية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.