شعار قسم مدونات

العلاقة بين السلطة الاستبدادية والجماعات الدينية

Blogs- syria
يوصف الدين بالسلبية عندما يتخذ معتنقوه خط الانحدار نحو التقوقع والانهزام في مواجهة تحديات الواقع ومشاكله المعقدة طريقا لهم. فالدين ثابت بذاته، متحرك بفعل الآخر؛ مما يجعل المسافة الفاصلة بين الدين والمتدين متماهية أو تساوي الصفر، فلا دين من دون متدين.
   
المشكلة ليست في الدين إنما في المُتدين أو المعتنق على الرغم من أنّ هذا الجواب يكون دائما للتملص من فتح الباب أمام التفحيص الدقيق لآراء، وفتاوى باتت اليوم من قطعيات الدين، ولايمكن المساس بها وذلك بتجاهل الإشكاليات والتحديات التي تبرزها وتجذرها هذه الفتاوى في واقعنا المعاش، فلا تؤدي إلى تفتيت المجتمع وتحويله إلى كيانات متصارعة مذهبيا، بل تضع العصا دائما في عجلة الإصلاح الديني، وتغلق باب الاجتهاد بإطلاق أحكام مجمّلة؛ تؤدي إلى التكفير والزّندقة للمجتهد، لا إلى نقد الفكرة أو الفتوى المجتهدة.
 
ولا يمكن أن ننسى أو نجهل دور السلطات الاستبدادية والقوى الاستعمارية في الاستفادة من هذه الفتاوى التكفيرية ونشرها في البيئات الفقيرة والجاهلة؛ لاحتضانها وإنتاج جماعات جهادية عمياء يسهل توجيهها وجعلها أداة تُستخدم لتفرقة وتحجيم المجموعات الاجتماعية، وإنتاج جيوش دعوية ترى في نفسها الحقيقة المطلقة.
 
فإذا أردنا تحميل المسؤولية للمتدين أو لممارس التعاليم الدينية دون الدين -والمقصود بالدين في هذا الطرح تلك الفتاوى المسقطة على واقعنا دون الأخذ بعين الاعتبار زمانية ومكانية واجتماعية هذه الفتاوى- لن نساهم بحل المشكلة التي حلّت بنا، ولكن فقط نؤجلها وندفع بها إلى الأمام دون أن ندرك أنّ تبرئة طرف على حساب الآخر يعني الانجرار أكثر نحو مستنقعات الدماء وتكديس جثث الموتى. لا ينبغي أبدا أن نهرب من طرح الأسئلة الموجعة حتى وإن كانت متعلقة بالمعتقد؛ ما دمنا ندرك تماما أن الفواجع، والجثث المكدسة، وقوافل المشردين، ومحاربة تطلعات الشعوب في نيل حريتها وكرامتها من أنياب الاستبداد والتسلّط، قد تمت تحت تفسيرات وشروح لنصوص دينية ترافق كل عمل إجرامي.
  
المتدين ضحية يفتك بها مرتين؛ ضحية لجبروت المتسلط، وضحية للشروحات ومرجعيات نقلت إليه من القرنين السابع والثامن الميلاديين بواسطة حكومات سلطوية تعززها عبر أبواقها الدعوية

أو على الأقل هذا ما يتم إرفاقه مع فيديوهات المنابر الإعلامية لهذه الجماعات الدينية، أو تملأ به نشراتها الدعوية التي دائما ما ترفض الواقع وتنفي وجود الآخر، فالدين -كما يُقدَّم من خلال فتاوى مجتزأة- يعطي ملجأ لهذه الجماعات، ويحصّنها من النّقد، ويوفّر المادة اللازمة لإقناع كلّ أولئك المنهزمين من الواقع وصعوبة تحدياته بالحنين إلى الماضي البعيد؛ أي إنّ هؤلاء المريدين جاهزون مسبقا للاندماج والتفاعل مع هذه المواد والفتاوى.

 
فالدين كما عرفه دوركهايم "هو تسام للجماعة من أجل إعادة إنتاجها باعتبارها حالة من الوحدة"، هذا التعريف يكون صحيحا ومطابقا لحركية الإسلام المتصاعدة في صدر الإسلام حتى مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان -رضي الله عنه-، حيث كشفت الهويات العصبية والقبلية عن ذاتها بالتجاء القتلة إلى قبائلهم هربا من القصاص والمحاسبة؛ فأدّت بطبيعة الحال إلى إضعاف الرابطة الدينية التي وحدت أشتات العرب لتبعثهم أمّة واحدة أخضعت العالم القديم.
أعتقد أن الإشكالية كانت بتمويه المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية بغطاء ديني، فالدين ليس هو الإشكال، بل المتدين جعل المشكلة هي الدين. باستطراد تاريخي للدول الإسلامية حتى سقوط الدولة العثمانية نجد عددا من الحروب والصراعات على السلطة كانت حروبا دينية؛ أدت لنشوء دول مذهبية وطائفية، أو دول من ذات الطائفة الواحدة ولكن بتفسيرات وشروح للنصوص الدينية بحسب الحالة التي تستوجب البقاء في السّلطة.
 
فالعلاقة الثلاثية بين الدين والمتدين والسلطة لعبت دورا مهما في نشوب حروب وصراعات مفجعة ومطردة، ولازالت هذه الثلاثية تحكم شرقنا الأوسطي، وتفتته إلى كيانات طائفية دموية، فالحركات الشمولية الإيدلوجية لا ترى أي حق لصوت فكري في رأي أي جماعة أو حزب أو مفكر آخر لا ينتمي لهذه الإيدلوجية؛ مما يسهل استخدام هذه الحركات كأداة توجَّه بحسب الحالة التي تستوجبها المرحلة التاريخية، وطالما تعتبر هذه الحركات أن الحقيقة المطلقة في حوزتها هي قد ترفض التعاون مع أي طرف، وقد تقبل التعاون مع أي طرف، فالأمر سيان، مما لا يثير الدهشة عندما ترى جماعات إسلامية تتقاتل فيما بينها لأسباب لا تستوجب إثارة نزاع مسلح أو حتى احتكاك، بينما تجدها تجمد القتال في جبهات النظام الذي أثخن في جرائمه لحد تجاوز كل البشاعة.
 

العلاقة الثلاثية بين الدين والمتدين والسلطة متشابكة، تستخدمها السلطة بالشكل الصحيح لتغطي على فشلها وعدم قدرتها على الإنجاز
العلاقة الثلاثية بين الدين والمتدين والسلطة متشابكة، تستخدمها السلطة بالشكل الصحيح لتغطي على فشلها وعدم قدرتها على الإنجاز
 

عندما ترى الحركات الأكثر تطرفا تقاتل حركات تصفها بالمعتدلة (المرتدة) هذا كله يتم تغليفه بفكرة الفئة الناجية والتي يتوجب عليها احتكار الدين لذاتها، وفرضه كما تراه هي، فلا دين يخرج عن إطار تصوّرها. لنتساءل عن الدينامية التي حولت ذات النص من وحدة جامعة إلى أداة مفككة ومفتتة لتماسك الجماعة، بالتأكيد الجواب ليس صعبا، فالاختلاف والتباين في فهم النص -غالبا ما ينتج هذه الاختلاف في حقب زمنية مظلمة تسكنها الفتنة وتعشش في زواياها؛ مما يجعلها دائما محل نقاش إذا ما سلّط عليها الضوء، أو تمت مناقشتها في واقع أكثر واقعية واستقرار- أدّى لهذا التحول، هذا إذا سلّمنا فرضا أن العلاقة بين الدّين والمُتدين المفسّر لدين والممارس لتعاليمه لا تشوبها ضغوطات سلطوية أو أهواء دنيوية.

 
الدين مرجعيات ونصوص مقدسة يمارسها المتدين في ظاهرة اجتماعية بهدف توطيد السّلم والعدل، فنستطيع في هذه الحالة أن ننسب هذه الظاهرة الاجتماعية للدين. والمتدين هو وسيط بين المقدمة والنتيجة، ولكن ماذا لو كانت النتيجة ما نعايشه اليوم، ونكابده من حروب وتشرد وهزيمة لتطلعات الشعوب في العيش الكريم والانعتاق من العبودية. إن مما تتبناه الجماعات المتطرفة من فتاوى دينية كمرجعية لكل الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية، قد تكون هذه الجماعات تجتزئ أو تقتطع ما يناسب أطماعها في السلطة، ولن أدخل في بيان الخطأ والصواب في كل تلك الفتاوى ولكن ما نريده النتيجة، فالفكرة وسدادها تقاس دائما بالنتيجة التي تؤدي إليها.
 
ماذا أعطت هذه الجماعات التكفيرية غير الشرعية للعصابات الدولية والإقليمية لاحتلال أرض السنة وتشريدهم، وأعطت في الماضي ولازلت تعطي الشرعية للمستبد ليمضي بظلمه وطغيانه؟! فالعلاقة الثلاثية بين الدين والمتدين والسلطة متشابكة، تستخدمها السلطة بالشكل الصحيح لتغطي على فشلها وعدم قدرتها على الإنجاز، فلا تكتفي باستخدام الدين عبر الجماعات المتطرفة، ولكن تستخدمه لتحليل فشل الواقع كنتيجة لآثام الشعوب، أو أنّ ما يحصل مقدمة حتمية لقدوم المخلّص الذي سيأتي في بعيد الزمان.
 
وأما المتدين ضحية يفتك به مرتين؛ ضحية لجبروت المتسلط، وضحية للشروحات ومرجعيات نقلت إليه من القرنين السابع والثامن الميلاديين بواسطة حكومات سلطوية تعززها عبر أبواقها الدعوية، وتستخدمها في وجه القوى الإصلاحية التي تريد أن تعود بالدين كوحدة جامعة من خلال فهم نصوص الدين وتفسيرها بشروح وتأويلات متوافقة مع حركية وزمانية الواقع.
 
فالقدرة الدينية الكامنة التي وحدت العرب، لابد من اكتشافها بروح العصر لتعيد لنا حريتنا وعزتنا المفقودة. قد يكون من المستحيل إنقاذ الدين الإسلامي الأول من الدين الإسلامي الذي طالما أنتج ليوافق سلطوية المستبد أو جاء كرد فعل على حقب تاريخية عانتها أمة الإسلام إلا بتفكيك العلاقة بين الدين والسلطة وإعطاء الحرية المطلقة للمتدين لإعادة اكتشاف ذاته، ثم اعتناق الدين الإسلامي الحنيف كم فهمه الصحابة الأوائل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.