شعار قسم مدونات

حيّ الله الشهيد

مدونات - هدم منزل الشهيد جرار

قربَ الفجر، استيقظت، كان الضوء خافتا جدا، والستائر الثقيلة تسرب ضوء الشارع بشكل ساحر، أمسكت هاتفي وطالعت الساعة، كانت تقترب من الرابعة فجرا إلا قليلا، تسرب لقلبي شعور بالثقل والخفة في آن، فتحت "تويتر" وطالعت آخر الأخبار، كانت الأخبار تتوالى عن اقتحامات في جنين، عن شهيد أو اثنين، تبادل لإطلاق النار، شعرت بأن الوقت قد اختلط عليّ، إن كنت ابنة السابعة والعشرين، الراقدة في بيتها، أم ابنة العاشرة في غرفتها الصغيرة الوردية اللون ذات المرايا، اختلط علي إن كان ما أشاهده هو خبر عابر على تويتر بهاتف أمسكه بين يدي، أم إنها مقطوعة مصورة لزمن الانتفاضة، أتسلل لأفتح الكمبيوتر الضخم الذي يحتل مكتبا كاملا وأشاهدها مرارا وتكرارا بلا سأم..

 
أعود فجأة وكأن الزمان لم يمر، لوقت الألفين، حيث كان كل شيء واضحا وذا مسمى، حيث كانت "فلسطين"، "الضفة"، "غزة"، "القدس"، أشياء حقيقة وقريبة، قريبة حتى تكاد تلتصق بوجوهنا وقلوبنا، كانت هي الحديث الدائم والأنشودة المترددة، في المسجد وفي المدرسة، كانت الفتاة النصف فلسطينية التي التحقت بصفي فتاة أحلامي، لا لشيء إلا لأنها حظت بأم فلسطينية "خارقة بالضرورة"، أحاول أن أعقد أطر الصداقة مرارا وتكرارا، حتى صرحت ذات مرة أنها لم تزر فلسطين أبدا، ولا تحبها، وأنها مصرية لأب مصري، سقطت الفتاة فجأة من قلبي، وتساءلت بيني وبين نفسي عما إذا كانت أمها فلسطينية أو أنها تكذب، هل يمكن لأي كان ألا يحب فلسطين؟ وأن يتملّص من انتمائه لها ولو كان نصف انتماء؟

 
أتذكر محاولة الهروب الأولى، الحقيقة أنها لم تكن محاولة، بل فكرة وُئدت في مهدها، كنت في العاشرة تقريبا، عندما قررت أن أهرب من بيتي الكائن في محافظة الشرقية، القريبة شديدة القرب من العريش، التي تلتصق بغزة.. كانت الخطة محكمة، أضع ملابسي في حقيبة، وأستقل سيارة "بيجو" حتى العريش، ومن هناك أدخل لغزة، خمس ساعات فقط، وأتحول لكائن أسطوري مشارك في الانتفاضة، فشلت الخطة طبعا، لأننا لحسن الحظ لم نمتلك حقيبة تناسب طفلة العاشرة، ولأن حقائب السفر تم تخزينها بطريقة أعجزتني عن إخراجها، فشلت الخطة وصرفت النظر، وتبرعت بمصروفي بعض الأيام عوضا عن المشاركة الفعلية -كم خسر أطفال الانتفاضة بغياب طفلة العاشرة-..

 

في الإطار صورة ليحيى عياش، الذي أريت صورته يوما لابني يحيى -المحب بطبعه للأبطال الخارقين-، وقلت
في الإطار صورة ليحيى عياش، الذي أريت صورته يوما لابني يحيى -المحب بطبعه للأبطال الخارقين-، وقلت "اسمك يحيى، واسمه يحيى، سميتك على اسمه لأنه كان بطلا خارقا"
 

أتذكر كل هذا في سريري الهادئ وأشعر بالأسى على طفلي، الذي تغرب هنا وهناك، فلم يعرف له وطنا، إلا أبويه، لا مسجد، ولا شارع آمن، ولا عالم أكبر، ولا دولة أخرى يمتلكها بين يديه كوطن أول وثان تسمى فلسطين، ويذكره بها الجميع، أستاذه في الفصل وفي المسجد، وفي الأسرة، لن يجد المطبوعات والملصقات ذات القبة الذهبية وتحتها كُتب القدس لنا، وبالتبعية لن يجد من يكتب ملحوظة تصحيحيّة بالقلم الجاف "هذه قبة الصخرة وليست المسجد الأقصى"، هنا لا مسجد إلا في الصلوات الخمس، يتداعى المجتمع المهزوم على نفسه فلا يجد قضية أكبر ليتذكرها، لأنه بالكاد أدرك أنه لا يملك لنفسه شيئا..

 
أعود لنفسي، الأمّ، ذات السبعة والعشرين، أفتح فيسبوك حيث أغلبه مصريون، لا حديث عن الشهداء الجدد، ولا أي خبر إلا أخبار مصرية يومية عادية ساخرة، أسأل نفسي عن تطاول الزمان الذي يبعد الناس عما كانوا عليه حتى يغتربوا فيكونوا أناسا غير ما كانوا، تختلف قضاياهم وتتباعد..

 
على تويتر، صورةُ هدمِ منزل الشهيد، يخرج من بينها إطار امتلكت ما يشبهه يوما ما، إطار يحمل صورة يحيى عياش داخله ومعه بعض الرفقة، يبدو الإطار كسَكِينَة متجسدة لي أنا، وكشبح مخيف لعدوي، في الإطار صورة ليحيى عياش، الذي أريت صورته يوما لابني يحيى -المحب بطبعه للأبطال الخارقين-، وقلت "اسمك يحيى، واسمه يحيى، سميتك على اسمه لأنه كان بطلا خارقا"، حملق ابني في الصورة وقال  باقتضاب "حلو..".

 
تبدو الصورة الناجية من الهدم كقضية واحدة نجت من الهدم والهزيمة، رغم كل شيء، تتكور على نفسها، تشق الأرض، وتنبثق، وتجد لها مكانا دائما، من حيث لا ندري، ومن حيث ظننا أن الجدب قد طالنا..
 

حيّ الله الشهيد..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.