شعار قسم مدونات

عن الكتابةِ أكتب

blogs كتابة
أكتب عن شدوِ العصفورِ وموته، عن لاجئ في أرضه، أكتب لحفظ مشهد أو محوه. أكتب لأرى الشمس وافدة، أكتب لتتسع الدنيا لقمرين، أكتب وأُلبسُ الواقع ثوب الخيال، عن الكتابةِ أكتب.
 
إن أُرغمت على ترك الواقع نفيا فورقة وقلمُ رصاص خير مأوى لهكذا لاجئ. فالكتابةُ لن تمحق كبرياءك برفض، ولن تبقيكَ على أعتابِ حدودها منتظرا إن كانت أوراقك الثبوتية بالنقص معلولة، وإن كنت ذا بياض ناصع وأصحابُ البلادِ بالسمرةِ معروفون، ولا حتى إن كنت من الموحدين أو غيرهم، فكلما سندت يدك على ورقة وفيها قلم محمول بثلاث قيل لك حللت أهلا ووطئت سهلا.
 
نبدأ بقولهِ تعالى في سورة العلق "الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ" تفسيره: علم خلقهُ الكتاب والخط، وقد بدأ قولهُ سبحانهُ وتعالى في هذه السورة بـ "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"، ومن هنا دلالة على أهمية وجود النص المنزل للقراءة. وقيل في الكتابة‏ أيضاً: ‏‏"‏من جلالة شأن القلم أنه لم يكتب لله تعالى كتاب قط إلا به‏". الكتابة سيل لا ينفد وشمس تستسيغُ الشروق، الكتابة لا تُتَنبأُ ولا يشترطُ عليها زمان. الكتابةُ كمتجر يختصر كل الموجودات، أبوابه مشرعة ليلا ونهارا متى أردت نهلت.
 
جاءت الكتابةُ أيضا منصة مفتوحة لما تصبو الروح للبوح به على كافة الصعد دينيا، علميا، غزلا، نقدا، مدحا، وذما.. وفي كافة الأساليب شعرا، نثرا، سردا، ووصفا ..فالكتابةُ أجدى الوسائل لمخاطبةِ النفس، عندما لا تساورك نفسك الحديث مع أحد فالورقةُ أفضلُ حافظ لما كتبت وأفضلُ مصغ لما قلت، فضيقك ضيقها وحزنك حزنها وفرحك فرحها.. الكتابة وسيلة لبوح النفس للنفس، أن ترى النفس هاربة نحو ورقة لتفشي أسرارها، ورقة واحدة فقط لا تريد أن يقرأها أو يراها أحد.
 
الكتابة نتاج شغف ملخص بكلمات، فكم من كاتب ذائعِ الصيت بسرد القصص وآخر بتلقيح الواقع بخيال بعيد المنال
الكتابة نتاج شغف ملخص بكلمات، فكم من كاتب ذائعِ الصيت بسرد القصص وآخر بتلقيح الواقع بخيال بعيد المنال
 
 

لكل كاتب أسلوبه كأنك تسمع في قراءة ما كَتب، صوته أو حتى عُربَ صوت جديدة هي عُربُ صوته، لا يا أخي وكأن حروفا تخصه اصطفت لتخط رسمه، إن قرأت في الحبِ كرها في قصيدة "أكرهُها" (أكرهُها.. وأشتهي وَصْلـَها وإنّني أحبُّ كُرهي لها) فلا تستمهل العقل تفكيرا، فالرسم واضح والصوت بالاسم ناضح إنه نزار قباني، وإن رأيت الروح عامرة تسمو عن الدنيا هاربة، وهل هذا المقام لغير الرومي؟

 
الكتابة نتاج شغف ملخص بكلمات، فكم من كاتب ذائعِ السيط بسرد القصص وآخر بتلقيح الواقع بخيال بعيد المنال. الكتابةُ لا تخضعُ لمعايير العرضِ والطلب، قد ترى شخصا مهموكا بالكتابة ومعه متسعٌ من الوقت، وترى آخر مضطراً لها ولا يملك حتى خيطا رفيعا من فكرة واحدة، لذلك إِن قال لك أحدٌ أنا محتاج للكتابة لا تسأله لماذا، ومن هنا نجدُ أن التبحُر في بعض الكتب غرق، وقراءة بعضها الآخر مجرد قراءة .
 
إن مزج الألوان مع بعضها يشكلُ ألوانا جديدة، وعزفُ البيانو يختلف من لحن لآخر، ورصفُ الأحرف لتشكل بتبديلها كلمات ذات معاني مختلفة، ورصفُ الكلمات يفعلُ كذلك بالمقاطع والنصوص، أحيانا تنزلُ الكلمات وترى يدك تخط من ضاد ونونٍ وياء.. وتنظر إلى آخر الكلمة لترى ما هي لتقرأها، وتنتظر الكلماتِ تباعا ليكتمل النص فيكتمل المعنى.
 
الكتابة نواة موجودة داخل كل كاتب، لكن عليه بذل القليل من الجهد لشطرها وإبهار القارئ بما كتب، وأجد قول الرافعي عند سؤاله عن كيفية امتلاك ناصية الأدب، فقال "ينبغي أن تكونَ لكَ مواهبُ وراثية ٌ تؤديكَ إلى هذه الغايةِ، وهي مالا يُعرفُ إلا بعدَ أن تشتغلَ بالتحصيل زمناً، فإن ظهرَ عليكَ أثرها وإلا كنتَ أديباً كسائرِ الأدباءِ، الذينَ يستعيضونَ من الموهبةِ بقوّةِ الكسبِ والاجتهاد".
 
جاءت الكتابة عبر العصور لحفظ العلوم وضبط الحقوق ورسلا للناس تنوبُ منابَ خطابهم، لهذا إن الكتابة حاجة وضرورةُ وجود فهي ليست بالشيء الكمالي. يقول الجاحظ: "يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقـى أثره"، ومن هنا بقاءُ الكتابةِ وبذلُ الجهد لحفظها. ومن جميل الكتابة اختصارها هذا الشمول، فكم من عقل مفكر يعيشُ معنا، يضعنا على ضفافِ السلام في دنيا تنشدُ الحرب، وكم من واصفٍ لامسنا معنى وصفهِ بترتيب أحرفه، ففي الحب من لا يعرفُ قيسا وليلى أو عنترة وعبلة؟ ومن لا يعرف سيد الخلق سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) في صدقه، حكمته، وعدله. كلُ ما سبق عَهدنا تعرفنا عليه بالكتابة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.