شعار قسم مدونات

السلطة والمعرفة كما يصورها القرآن الكريم

Blogs- quraan
نحاول خلال هذه التدوينة وما يليها التعرف على كيفية التنظير المبثوث في القرآن لفكرة السلطة والتصور الإسلامي لها، وفكرة المعرفة انطلاقا من المدرسة التي تربط عملية تكون المعرفة سواء في سياق فردي أو سياق جماعي بالسلطة، وخاصة تنظير مدرسة فرانكفورت، وتحديدا فوكو لتلك المسألة.
     
بداية ستكون الإشكالية التي تواجه أي تنظير من هذا النوع هي عملية انتقاء النص، بمعنى تحديد أي نص من خلال آيات القرآن ومواضيعه التي يمكن أن تشكل أساسا يمكن البناء عليه في مسألتي المعرفة والسلطة، وهما موضوعان يتناولهما القرآن تقريبا من جزء البقرة إلى جزء عم، فأي تلك النصوص العديدة يمكن أن يمثل المبتدأ الذي نحمل عليه بقية النصوص المتعلقة بنفس الموضوع؟ بتعبير آخر: ما الذي يمثل الآيات المحكمات في هذين الموضوعين؟ ومالذي يمثل المتشابه فنرد المتشابه إلى المحكم؟
  
في الواقع، بالرغم من آلاف التفاسير للقرآن منذ عهد الصحابة وخاصة الإمام علي بن أبي طالب وبن عباس وبن مسعود والجيل التالي لهم كمجاهد وسعيد بن جبير، وصولا إلى زمننا المعاصر، فلا يمكن أن نقول إن هناك معايير واضحة للإجابة  عن هذا السؤال، ولكن كانت هناك مدارس وافتراضات عديدة مثل النظر إلى القرآن من منطلق الوحدة الموضوعية.
  
فالمحكم في أي نص أو آية هو الموضوع الكلي للسورة التي ورد بها النص أو افتراض وجود محاور مركزية للقرآن، مثل محاولة الشيخ محمد الغزالي تحديد تلك المحاور في كتابه "المحاور الخمسة للقرآن الكريم" أو تحديد نص معين بكونه المحكم كاعتبار الفاتحة بوصفها أم الكتاب أنها المحكم الذي يرد إليه بقية القرآن، أو الانطلاق من نظرية عقائدية معينة بوصفها محور القرآن، فإذا كان المسلم شيعيا مثلا فهو يعتبر نظرية الإمامة هي المحكم فيُرد إليها بقية القرآن، وهكذا وصولا الى نظريات أكثر حداثوية تقول إنه لا يوجد ثبات بمفهوم المحكم والمتشابه في القرآن وإنما العملية نسبية تخضع لتغير البيئة وتغير الزمان والمكان، فما يمثل المحكم الآن في القرن الخامس عشر من الإسلام ليس بالضرورة هو محكم القرن الأول من الإسلام !
  
لأن الله عز وجل يعلم أن العرب سينظمون أمرهم الاجتماعي حيث سيجعلون الكعبة قياما لأمرهم ويتوافقوا على الأعراف التي من خلالها جعلوا الهدي والقلائد، ولهذا أمر الله إبراهيم ببناء الكعبة
لأن الله عز وجل يعلم أن العرب سينظمون أمرهم الاجتماعي حيث سيجعلون الكعبة قياما لأمرهم ويتوافقوا على الأعراف التي من خلالها جعلوا الهدي والقلائد، ولهذا أمر الله إبراهيم ببناء الكعبة
 

وإزاء كل تلك النظريات، فإننا نطرح منهجا مختلفا وهو الانطلاق من "تاريخية" و "انطولوجية" القرآن، بمعنى أن المحكم بالنسبة لنا هو الآيات المرتبطة بالتأسيس للجماعة المسلمة التي كونها رسول الله في عالم الواقع، والآيات التي تحلل وتنظر وتضع أحكاما لما كان يجري واقعا بالفعل في تأسيس الجماعة المسلمة حتى انتهاء ذلك التأسيس، وهذا انطلاقا من فكرة بديهية وهي النظر إلى القرآن بكونه ليس فلسفة مجردة وإنما نص أوحى به الله عز وجل لنبيه لكي يؤسس بناء عليه دينا وجماعة تعتنقه، فلا يمكن بأي حال من الأحوال النظر إلى النص المجرد دون النظر إلى التجربة المصاحبة لهذا النص.

  
وبناء على ذلك اخترنا للحديث الآية 97 من سورة المائدة التي نصها: "جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌوهذا لسببين: الأول أنه انطلاقا كذلك من مدرسة التفسير الموضوعي فإن الموضوع الرئيسي لسورة المائدة كان إكمال الدين وإتمام النعمة "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا".
  
فبالتالي لو كان هناك أساس يمكن البناء عليه في استكشاف "نظرية إسلامية للسلطة والمعرفة" فالافتراض البديهي أنه سيكون في السورة التي تتحدث عن إتمام وإكمال الدين – وهذا تبعا لافتراض أن ماهية الإسلام حتما لابد أن تشتمل في أركانها على نظرية للسلطة في الإسلام والمعرفة، وخاصة أن رسول الله توفي بعد آية إكمال الدين بشهرين تقريبا، وبالتالي فأول سؤالين بعد وفاة النبي وانقطاع الوحي هو شكل السلطة التي ستلي النبي، وكيف يستطيع المسلمون بدون وحي من السماء أن يستنبطوا معرفة دينية؟. والسبب الثاني هو موضوع الآية نفسه، لأنها بالرغم من كونها من الآيات المتأخرات التي نزلت في حجة الوداع على النبي، ولكنها تتحدث عن وضع العرب قبل الإسلام في مسألة السلطة وما يتصل من هذا الوضع ببواعث الإسلام، بل وجعل هذا الوضع سببا في المعرفة بعلم الله الشامل لكل شيء.
  
نجد تفاسير عديدة للآية، ولكن التفسير الأغلب الذي ارتضاه المفسرون لقوله تعالى "جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ": أن العرب في الجاهلية لما لم يكن لهم سلطان أو سلطة مركزية تحكمهم وتقوم على أمرهم وتقومهم، اتخذوا الكعبة لرمزيتها في كونها بيت الله عز وجل هي التي تقوم على أمرهم وتكون قياما أو قواما لهم في شؤونهم، كيف هذا؟  ذلك أنه أولا جرت عادتهم أنه في أي اقتتال يحدث بينهم كان المتقاتلون عندما يريدوا أن تضع الحرب أوزارها يأتون إلى الكعبة بوصفها تمثل رمزية سلطة الله عليهم ويتحاكمون عندها حتى يصلوا إلى نتيجة أو حل سياسي ينهه ذلك الاقتتال.
  

السلطة هي التي تضع أنواعا من المعارف بوصفها غير علمية أو لا عقلانية وتعتمد على معارف أخرى وتعطيها صفة العلمية لكونها متوافقه ومتوائمة مع الفكرة السلطوية

وكذلك في الجاهلية، إذا أصاب عربي دما وأتى إلى الكعبة فإنه يحرم على ولي الدم أن يقتص من القاتل وهو عائذ بالكعبة، ومن ثم يتم الوصول إلى حلول مما اقتضتها أعرافهم، منها ما أجمله القرآن في المقطع الثاني من الآية في قوله تعالى "والهدي والقلائد"، حيث إن أحد أوجه تفسير الآية أن العبارة تدل على أنه كان من أعراف العرب، في حال وضعت الحرب أوزارها أو دفع الدية في حال إصابة دم حرام، هو أن يسوق القاتل أنعاما إلى الكعبة عليها قلائد ينوي ذبحها لله وليس للأصنام لتحط عنه الدم الذي أصابه.

   
على أن أغلب التفاسير ترى أن تلك العبارة هي من قبيل الخاص الذي يدل على العام، وذلك لأن العرب تكونت لديهم منافع ومعايش اقتصادية عديدة مرتبطة بمركزية البيت الحرام من التجارة والأنعام المذبوحة لله ويأكل منها الجائع والمقتر وغيرها دل عليها الله في هذا المعنى الخاص. وكذلك لرمزية وحرمة بيت الله الحرام، فالعرب توافقوا على أشهر حرم أقرها الإسلام خلالها يتوقف أي قتال بينهم حتى يأمن من يريد الحج لبيت الله عز وجل في سيره إلى مكه قاصدا الحج، فبسبب وجود الكعبة كبيت لله عز وجل توافق العرب على أن يضعوا السيف والقتال أربعة أشهر من العام، يأمن خلالها من يريد المسير لبيت الله، فبهذا المعنى كانت الكعبة قياما للناس.
  
حسنا، ما علاقة كل هذا بالعلم حتى يكون جزء الآية الثاني أو مقطعها الثاني "ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"؟ وخاصة، أيضا، أن التفاسير في أغلبها تقول إن اللام في "لتعلموا" هي للتعليل، وإن الإشارة في ذلك راجعة إلى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما أو قواما للناس؟ الذي قالته التفاسير المختلفة هو أن العلم المراد هنا: لأن الله يعلم أن العرب سينظمون أمرهم الاجتماعي على النحو المشروح من كونهم سيجعلون الكعبة قياما لأمرهم ويتوافقوا على الأعراف، التي من خلالها جعلوا الهدي والقلائد، ويتوافقوا على ثلاثة أشهر حرم، لهذا أمر الله ابراهيم ببناء الكعبة قبل أن يتوافق العرب على تلك الأمور بمئات السنين.

  

ولكننا ننظر إلى الأمر بمعنى آخر أو وجهين للأمر: الأول هو رد فكرة وسؤال الصواب والخطأ إلى الله وسؤال الصواب والخطأ يمكن اعتباره منبع الأخلاق، أو السؤال الذي تبنى عليه فكرة الأخلاق، بمعنى أنه لو كان منبع الأخلاق وسؤال الصواب والخطأ وسؤال الحق والباطل ذاتيا ويخضع للأسس التي يقوم عليها اجتماع الناس فإن البديهي أن القاتل يقتل وقتله يكون إنفاذا وإحقاقا للحق، والبديهي أيضا أنه في أي حرب أو اقتتال لا يوجد طرف يقاتل إلا وهو معتقد أن الحق معه والطرف المقابل له على باطل، فإذن أي نتاج لأي عملية اقتتال، وخاصة في بيئة قبلية وعشائرية مثل التي كان عليها العرب، لا يمكن أن تنته إلا بتغلب الذي معه القوة لإنفاذ ما يعتقد أنه حق وهزيمة الطرف الأضعف.

  

الحل في أي صراع وخاصة لو كان عنوانه
الحل في أي صراع وخاصة لو كان عنوانه "صراع اجتماعي" إما العودة لسلطة بشرية لديها المنعة وقوة السلطان لتحكم بقوتها أو التسليم بأن الحق المطلق مرتبط بذات الله وهو وحده يحكم بين عباده
 

وهذا التناقض أصلا ينقل جل صراعات البشر، سواء كان عنوانها اقتتال أو غيره،  من كونها متعلقة بالحق إلى كونها متعلقة بالقوة، ولهذا عالج القرآن تلك الإشكالية في موضع آخر في آية المكاتبة في سورة البقرة في قوله تعالى: " فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل"، وهذا لكي لا يكون عنوان الحق والباطل مضللا يقصد به في الحقيقة من لديه القوة!

  

فالشاهد أنه للخروج من تلك الدائرة توافق العرب وأقرهم القرآن على ذلك على رد سؤال الحق والباطل وسؤال الصواب والخطأ إلى الله عز وجل، ففي عمليات الصراع هناك حقيقة ثابتة وهي أنه لا يوجد طرف يحتكر الحق والحقيقة وآخر على باطل تام وخطأ مطلق، وهذا بدوره معنى أسسه القرآن وأسسته الشريعة، أن كل حق مجرد لابد أن يداخنه باطل، وكل باطل لابد أن يداخنه حق، وهذا معبر عنه في الحديث النبوي عندما سأل حذيفة بن اليمان رسول الله هل بعد ذلك الخير – يقصد خير الإسلام وانتصاره- من شر؟ قال نعم، فأعقب حذيفة وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال نعم وفيه دخن! – سنعود لهذا الحديث بعد قليل. 

 

فلهذا يكون الحل في أي صراع، وخاصة لو كان عنوانه "صراع اجتماعي" إما العودة لسلطة بشرية لديها المنعة وقوة السلطان لتحكم بقوتها في ما شجر بين الناس، أو التسليم بأن الحق المطلق مرتبط بذات الله وهو وحده يحكم بين عباده في ما كانوا فيه يختلفون، وذلك لعلمه المطلق، وهذا ما توافق إليه وعليه العرب من خلال اتخاذهم الكعبة قواما لأمرهم بدلا من وجود سلطة مركزية والتحاكم عندها لرمزيتها في كونها بيت الله، فهذا أول معنى يدل عليه جعل الكعبة قياما للناس على أنها دليل لكي يعلم الناس أن الله يعلم وهم لا يعلمون. 

  

الوجه الثاني هو أنه لما كان العرب كما وصفهم القرآن أميين، أي لم يبعث الله فيهم رسولا من بعد إسماعيل، فلا يمكن لأحد أن يدعي أنه ممثل لله عز وجل وأنه ينطق بكلمة الله سبحانه، وأن إرادته من إرادة الله عز وجل، فبالتالي كان البديل هو أن يكون المعبر عن كلمة الله وحكمه هو جماعة البشر إذا توافقت أن تلتجئ إلى الله داعين اياه أن يلهمهم الصواب، وهذا تم التعبير عنه بأنه في ما تصارع عليه العرب وتشاجروا في ما بينهم يضعوا سلاحهم ويجتمعوا في حمى بيت الله، عازمين على أن لا يخرجوا من الحرم إلا وقد توافقوا على حل في ما كانوا فيه يختلفون، فبهذا المعنى وتأسيسا على المعنى في الوجه الأول من رؤيتنا تكون المعرفة والعلم موزعين بين الناس، ولا سبيل لاتصال هذا العلم بعلم الله إلا بإقرارهم أن كلا منهم على حدى يملك فقط جزءا من الحقيقة والصواب، والله وحده هو الذي يمتلك الحقيقة المطلقة، وباجتماعهم في معية الله يستطيعون أن يصلوا إلى معنى مجمع من أجزائهم ويتصل بعلم الله.

 

منظومة العقوبات التي شرعها الإسلام الهدف منها تغيير فاعل الخطأ ومساعدته لكي يكون أقرب للحق وليس افتراض أن الإنسان الذي لديه السلطة و ينفذ العقوبة يحتكر معنى الحق والصواب

وهذان المعنيان تحديدا هما اللذان تم التأسيس عليهما في ما يعرف بعلم الشريعة وتأسيس معنى الاجتهاد، فأصول الشريعة مؤسسة على أربعة أركان: القرآن والسنة والقياس والإجماع، فالركن الأول متصل بعلم الله المطلق، والثاني متصل بعلم الله الذي أجراه على لسان نبيه ويحتاج إلى جهد بشري توافق عليه المسلمون في ما سموه بعلم الحديث للوصول إليه، والركن الثالث متصل بعملية بشرية يقوم بها العقل المنطقي للمجتهد الفرد، ومجموعها يؤدي إلى الركن الرابع وهو اجتماع المسلمين على معنى معين يظنون أنه مراد الله عز وجل. 

 

كذلك، فبالرغم أن الإسلام وضع جزءا من تلك الآليات التي توافق عليها العرب لما أسس لدولته وتكون معها سلطة، ووضع بدلا منها منظومة تشريع أخلاقي وجنائي، ووافق جزءا آخر جعله مفتوحا لأعراف الناس في ما لا يخالف الشريعة، ولكن نفس تلك الفلسفة المشروحة أعلاه هي الفلسفة التي تقوم عليها فكرة السلطة في الإسلام، ولهذا بالعودة لحديث حذيفة بن اليمان، فعندما سأل رسول الله فماذا أفعل عندما أجد ذلك الدخن قال له رسول الله: "إلزم جماعة المسلمين وإمامهم، ولاحظ هنا أن رسول الله قدم جماعة المسلمين على الإمام لأن المفترض في "الإمامة الشرعية" أنها تكون معبرا عن اجتماع المسلمين لمحاولة مقاربة الحق ملتمسين معية الله وهديه، بنفس المنطق الذي كان يجتمع العرب لتكون الكعبة قياما لهم ولكن الفارق أنه بعد الإسلام يكون القرآن ورسول الله هو القوام لهم!

 

وكذلك فإن الأساس لمنظومة العقوبات في الإسلام هو التوبة وليس أخذ الحق، أي أن منظومة العقوبات التي شرعها الإسلام الهدف منها تغيير فاعل الخطأ ومساعدته لكي يكون أقرب للحق وليس افتراض أن الإنسان الذي لديه السلطة وينفذ العقوبة يحتكر معنى الحق والصواب، فمن ثم ينفذه مع إنفاذ العقوبة،  وهذا المعنى عبر عنه الله سبحانه في قوله "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب". وبالمقارنة مع تاريخ تكون الإسلام فإن أول حرب أهلية نشأت في الإسلام في ما سمي بالفتنة الكبرى التي بدأت بمقتل الخليفة عثمان بن عفان لم تنته إلا بإنفاذ هذا المعنى في ما سمي بعام الجماعة بإسقاط الدم عن قتلته، احتكاما لنفس الفلسفة أنه في تلك الحرب الأهلية لم يحتكر طرف الحق، وبناء عليه اللجوء إلى حل توافقي بعيدا عن سؤال من كان على حق ومن كان على باطل؟ وهذا هو جوهر ومعنى السياسة أصلا، أي التوافق على ما يتواضع عليه البشر بعيدا عن سؤال من معه الحق؟ وهذا أيضا بالرغم من وجود نصوص نبوية تدل على أن الحق كان مع علي. 

  

فبناء على هذا التأسيس نستطيع أن نجد إجابة على ما طرح في الفلسفة الغربية وخاصة مدرسة فرانكفورت حول سؤال المعرفة والسلطة، في أطروحة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في مجموعة محاضراته في مؤسسة "كوليج دو فرانس" في نفس العنوان الذي بدأنا الحديث به وهو "المعرفة والسلطة"، قدم فوكو عدة أفكار مركزية نوجزها باختصار:

  

إن وصف معرفة ما بأنها علمية أو غير علمية كان خاضعا بالأساس للسلطة، فالأخيرة هي التي تضع أنواعا من المعارف بوصفها غير علمية أو لا عقلانية، وتعتمد على معارف أخرى وتعطيها صفة العلمية لكونها متوافقه ومتوائمة مع الفكرة السلطوية التي تقوم عليها، وضرب مثالا لذلك بالماركسية، فهي كانت تأخذ صك "العلمية" أو ينتفي عنها نتيجة في الواقع لتبني السلطة لها أم لا؟ وفي سبيل هذا حولت السلطة إنتاج وتوليد المعرفة لفكرة المؤسسية، ففي وجود كيانات هي التي مخولة بإنتاج المعرفة تسمى المؤسسات، والعاملون في تلك المؤسسات يتلقون المال من مصدره الذي هو كذلك السلطة مقابل إنتاج المعرفة، هذا يجعل المعرفة المنتجة خاضعة لمعايير تلك السلطة لما تراه علميا أو غير علمي.

   

وجود السلطة هو الذي يخلق المصلحة والمنفعة الاقتصادية وهو متوافق كذلك مع تشكيك فوكو في مسألة ارتباط السلطة بـ
وجود السلطة هو الذي يخلق المصلحة والمنفعة الاقتصادية وهو متوافق كذلك مع تشكيك فوكو في مسألة ارتباط السلطة بـ"السلعة" كما يذهب إلى ذلك كل من التحليل الليبرالي والماركسي على السواء
  
خرج فوكو من تعريفات السلطة في السياق الغربي التي تربطها أساسا بالمصلحة الاقتصادية سواء في المدرسة الكلاسيكية الليبرالية المرتبطة بفكرة العقد الاجتماعي، التي تفترض أن السلطة بالأساس موزعة بين الناس ولكنهم يتخلون عن أجزاء منها مقابل تأسيس عقد اجتماعي يجمعهم، أو التحليل الماركسي الذي يربط السلطة بالتحكم في أدوات الإنتاج، وفي المقابل من ذلك يؤسس فوكو أن السلطة ببساطة مرتبطة بالممارسة، فمن يمارس فعل السلطة هو من يمتلكها! وبالتالي يؤسس لمعنيين للسلطة وهما ارتباطهما بالقمع والحرب، فهو يرى أن السلطة معناها القمع أي قمع للفرد والمجتمع في نوازعهم وممكناتهم، فاللفرد والناس بدون سلطة سيتصرفون وفق نوازع وغرائز ونمط تفكير ومعرفة معينة وتأتي السلطة لتقمع تلك النوازع بهم لكي يصبحوا "مواطنين" متوافقين مع السلطة، وكذلك هو يعكس تعريف المنظر الاستراتيجي كلاوزفيتز الذي عرف الحرب بأنها استمرار للسياسة بأشكال عسكرية، وبالمقابل فوكو يقول إن السياسة والسلطة التي تمارس السياسة هي استمرار للحرب بأشكال أخرى، وتلك الحرب تكون حربا على الإنسان الفرد والمجتمع. 

  

فبالتالي لوضع أطروحات لإشكالية السلطة والمعرفة كان فوكو يقترح الانطلاق في البحث عما أسماه المعارف المحلية عند الناس، أي المعارف التي كانت تتكون عند الناس من واقعهم الاجتماعي بدون تدخل سلطوي، ثم مع السلطة تم وصمها بغير العلمية وطرحت من عقول الناس وواقعهم الاجتماعي، وهذا معنى الجينالوجيا عند فوكو – الجينالوجيا هو العلم الذي يبحث في أنساب وأصل الأفكار-، فعندما نبحث مثلا في جينالوجيا الأخلاق في أصل وصم الممارسة الجنسية خارج الزواج في مجتمع أنها فعل غير أخلاقي وفي مجتمع آخر أنها فعل أخلاقي، أو وصف فعل معين من القتل بأنه جريمة أخلاقية او عدل، مثلا الحروب الإسرائيلية على غزة عندنا هي جريمة قتل جماعي وعند الاسرائيلي ليست فعلا غير أخلاقي، فيكون المبحث في أصول ونسبة وصفها بالأخلاقي أو غير الأخلاقي وهكذا.

 

فما سبق عرضه يمثل من وجهة نظرنا الخطوط العامة لإجابات إشكالية المعرفة والسلطة كما وصفها فوكو من القرآن، فالقرآن كما أوجزنا أعلاه في تلك الآية يؤسس أولا لمعرفة لا تقوم عليها سلطة إنما محصلة جماعية لما وصفه فوكو بالمعارف المحلية عند الناس، وتلك المعرفة لا تقوم استنادا على احتكار أحد للحق والباطل إنما للمراقبة الذاتية لاستشعار وجود الله بكونه صاحب العلم المطلق وهو الذي أودع معاني الحق والباطل في نفوس الناس، وهو ما يعبر عنه القرآن بمفهوم الفطرة، فبدلا من اللجوء للمعنى الذاتي للحق والباطل يتم اللجوء لمن أودع في نفوسنا معنى الحق والباطل وهو الله عز وجل.

 

وكما حلل فوكو فكرة ارتباط معنى السلطة بالحرب والصراع، فكذلك كان يقول القرآن عندما ربط القيام بأمر الناس الذي هو تجلي السلطة الأساسي وممارستها فعليا – كما ذهب فوكو-  بوضع الحلول لصراعهم استنادا مجددا للمحصلة الجماعية لمعرفتهم التي يلتمسوها في معية الله، وأيضا أن وجود السلطة هو الذي يخلق المصلحة والمنفعة الاقتصادية وهو متوافق كذلك مع تشكيك فوكو في مسألة ارتباط السلطة  بـ"السلعة"، كما يذهب إلى ذلك كل من التحليل الليبرالي والماركسي على السواء.

 

وبالتالي بهذا المعنى تصبح سلطة الله في القرآن والتي يؤسس عليها "الإمامة الشرعية" هي في الواقع تحرير للناس من سلطة بعضهم على بعض، وما ينتج عن ذلك من فرض بعضهم من واقع امتلاكه للسلطة لنوع معين من المعرفة تكون هي العلم وسواها غير ذلك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.