شعار قسم مدونات

الإيمان على مائدة الغباء

Blogs- pray
أعرف جيدا ما يعنيه الكلام حول الإيمان عامة وفي المجتمعات الشرقية خاصة، لست هنا للحديث على ماسيعلق في أذهان الكثيرين بمجرد تهجئته لمقدم الكلام وإن كنا نعرف بعضه لكثرة ما يخالطنا ويصادفنا في الكثير من المرات والنقاشات، لست هنا للحديث عن المعنى السطحي المحدود في أذهاننا للكلمة كلمة "الإيمان"، ولا للحديث عنما يروّج له في الإعلام أوعلى أفواه رجالات العلم والدين أو ما ترسمه العادة والزمن أو ما يتناقل لدى العامة. 
 
نعم أعلم أن الموضوع ملهم الكثيرين ونقطة حمراء لدى الكثيرين، لكن سأبدأ من حيث لا تُجعل الكلمة مصدرا لملء البطون وكتم الثغور، سأبدأ من حيث لاتكون الكلمة أفيونا تهذي به الشعوب قبل أن تغط في سبات. إن التأمل في مجريات الحياة في التفاصيل والجزئيات اليومية المعيشة في التفاسير المقدمة لها، في النتائج المستخلصة منها تقودنا إلى معنى الإيمان أو وليده، سنجدها غالبا محدودة بحده مسطّرة بخطوطه، هذا الإيمان الذي ربما ورثناه، شكلناه أو عرفناه أو اكتسبناه أو ترسب لدينا بحكم المجتمع والناس تارة، بحكم العادة والتكرار تارة أو بحكم الفكر والعقل تارة أخرى -على صحته وبطلانه-.
  
وسأضرب ربما مثلا قد ألفناه جميعا قد شكل إيمانا لدى الكثير منا رغم عدم إدراكنا له، فكلنا لدينا ذلك اليقين الجازم بأن أول ما سيقابل نواظرنا صباحا تلك الصورة المعتادة لشروق الشمس وبعث أشعتها، رغم أننا لا يمكننا إثبات ذلك أو تأكيده ولا الجزم به ولا معرفة لما نعتقد بذلك أصلا سوى أن العادة هي من أقرت هذا لدينا، نعم… إنه الإيمان أو ريح منه أن تفسر كل ما حولك، كل ما يحوطك ما يجول بك وفقا لما آمنت به، إن الإيمان المطلق إما دحر لملكة العقل أو تطويعها مطية لفهم ما يخالج نفوسنا ما نفكر به وكل ما يقابلنا كل ما يحتاج إلى تفسير حتى لو بدا من غير المنطقي قبوله عقليا، لكن رغم ذلك نتحايل على عقولنا تحت سلطة الإيمان وباسمه فنسلم ونجزم ونترك للزمن صقل الأفهام ومنطقة الأمور أو الرضا والتجاهل.
  
ما الذي يستحق سلب عقولنا بل تسليمها بأريحية، وجعلها تفسر الكون، تشرح الأشياء وتضع المسلمات، ترسم مبادئنا وتدير بوصلة الحياة وفقا لمستحقه وتقاطيع سبله
ما الذي يستحق سلب عقولنا بل تسليمها بأريحية، وجعلها تفسر الكون، تشرح الأشياء وتضع المسلمات، ترسم مبادئنا وتدير بوصلة الحياة وفقا لمستحقه وتقاطيع سبله
 

قد تتعدد الأوجه وقد يختلف المعنى من فرد إلى آخر، من ثقافة إلى أخرى طبقا لمدلول الكلمة العميق الذي يختلف سيكولوجيا من هذا إلى ذاك، وأخذا بعين الاعتبار المؤمن به ومقدار هذا الإيمان، ربما أعتبرها نقطة فيصلية في حديثي هذا لما لها من صلة وثيقة بملكة أخرى مغيبة ومهمشة، إنها الملكة النقدية والتفكير النقدي ما يجعل النسبية قائمة لا تزول، والسعي خلف الحقائق لا ينتهي إلا بالفناء. نعم، مغيّب عند الشرقيين غالبا بحجة الدين، والمعتقد الذي لا نقاش في مصادره ولا تحقيق في نصوصه أو صحة هذا المعتقد أصلا من بطلانه وتلفيقه، وعند الغربيين بحجة العلم والمادة التي لا يعلو فوق صوتهما شيء رغم أن العلم هو ما بقي الشك والخطأ في نظرياته قائما باختلاف الملاحظة ونسف ما تقدم من مسلمات وهذا المشهور عن فلاسفة العلم.

  
إن الإيمان المسبق أو الوراثي أو الناتج عن غير مقدمات تحضنه إنما هو إيمان أجوف، سواء تعلق الأمر بإله أو علم أو مبدأ أو غيره من شؤون الحياة، إن هذا الإيمان مجرد آلة لاستنساخ مجموعة من الحثالة والأغبياء غير القادرين على استخدام عقولهم، بل مستعدين لبيعها مقابل شهوة أو نزوة قد يورثها إيمانهم ذاك لهم. يبدو جليا أننا أخطأنا ومازلنا نخطئ في فهم حقيقة الإيمان على مدى اتساعه وشمولية مفهومه.
  
إن ما ذكر آنفا يقودنا لسؤال وجيه، بل ربما واجب طرحه طالما أن الكون يعج بالمؤمنين، هذا بإله وذاك بالعلم والآخر بالمادة والثالث بغيرهم، طالما لا مكان لغير المؤمن في الكون، طالما أن الإيمان هو ما يفسر ذواتنا ويعكس صورنا، بل ويخط حدود المبادئ والتفكير التي ندب عليها وننتهج أثرها. نعم، ربما أكثر من الضروري طرحه…. متى نؤمن؟؟ متى نؤمن إذا كان ما ندعوه إيمانا مجرد آلة لصناعة الأغبياء والمغفلين، مفر الكثير من العقول المتكاسلة عن البحث وإدراك الحقائق، وسيلة لدحر العقل. لكن ماذا إن كان لا بد منه لا غنى عنه فهو روح الفرد ومرجع العقل الأول للخوض في التفكير بعد أن يُثبَت هذا الإيمان، … بم نؤمن ؟؟ نعم، ما الذي يستحق سلب عقولنا بل تسليمها بأريحية، وجعلها تفسر الكون، تشرح الأشياء وتضع المسلمات، ترسم مبادئنا وتدير بوصلة الحياة وفقا لمستحقه وتقاطيع سبله.
  
إن هذا الإيمان الجامح واليقين اللامتناهي إما نتاج معرفة حقيقية ثابتة -رغم النسبية التي تشوبها- أو عن جهل مفرط يلزم على الإنسان إيمانا للخلاص من قرصات الفكر وجحيم التفكر والتسليم بأي شيء طالما يجعله في معزل عن التأمل والتدقيق والتمحيص، وطالما يجعله واحدا من العامة لا يخرج عن نمطهم القائم "هكذا وجدنا آبائنا وأسلافنا" غالبا ما يفرض علينا ما نؤمن به ونؤمن طوعا، فيكفيك فقط أن تكون على دين أبويك وعلى فكر أصدقائك وعلى تكذيب تلك النظرية وتصديق تلك الخرافة، وأن توهم الآخرين أنك تستميت في الدفاع عما سبق وأن إيمانك يقيني ولا شك فيه، رغم أن منطق عقلك لا يساير كل ذلك، رغم أن نفسك تأبى كل ذلك وتحاربه لكنك تتفنن في إسكاتها ارضاءا لإيمانك بإيهام الناس ، نعم لقد أصبح للواحد منا إيمانا تولّد عن ذاك الانفصام المقيت الذي يعيشه، إنه الإيمان بواجب الإيهام، وإنه لبئس الإيمان.
  
لا يمكنني إلا أن أختم بأن الكون يعج بالمؤمنين على اختلاف أطيافهم ومعتقداتهم، ولا مكان لغير المؤمن، بل أرى الواجب في أن نؤمن أو أن نسعى إلى ذلك جاهدين، لكن هذا الإيمان يحتاج التطويع لملكة العقل لملكة النقد والشك الموصل إلى المعرفة الحقيقية أو إلى ذنب من أذنابها إن وجد، إن هذا الإيمان يحتاج منا التضحية والوقت، وربما أعتبره شخصيا أسمى ما يعيش الإنسان لأجله ويكابد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.