شعار قسم مدونات

ليس القرآن كله..!

blogs قرآن

في جدل ثنائي على هامش محاضرة ألقيتها قبل سنوات في مؤسسة ثقافية، سألت الشاب المفجوع على مسلماته المذهبية: هل تعتقد أن الخطاب في عبارة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" الواردة في القرآن يشمل المؤمنين في كل زمان؟ فأجاب واثقاً: نعم دون شك. فسألته: إذن أنت تعتقد أننا مشمولون بالخطاب في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ". الأحزاب 53.؟! فاضطرب الشاب وسكت! كيف لم يتنبه هذا الشاب المتدين -ومعه عامة المسلمين- إلى أن في القرآن طائفة من الآيات الزمنية التي تخاطب جيلا معينا في زمن محدد هو جيل النبي محمد وصحابته في القرن السابع الميلادي، مع أنهم يمرون عليها ليلا ونهارا؟!

 

الأمر لا يتعلق بجهل النخبة طبعا فهناك من الفقهاء من يدرك وجود هذه الطائفة من الآيات ذات الطبيعة الزمنية التاريخية، لكنه -لسبب ما- لم يدفع بهذه المعلومة إلى فضاء الوعي القرآني، وإنما حرص على كتمانها -على طريقة أهل الكتاب- وكأنه يخشى أمرا ما! فبقيت معلومة ضامرة في زاوية مظلمة لا يزورها إلا قلة من الباحثين في أوقات نادرة. لقد خشي هؤلاء أن يفقد القرآن صورته المثالية في وجدان المسلمين، تلك الصورة التي اكتمل رسمها في قرون الانحطاط الإسلامي، بعد أن توقف العقل الإسلامي عن الاجتهاد الحر. غير مدركين لحقيقة أن المثالية غير العلمية قد تفقد القرآن إحدى أهم خصائصه، وهي الواقعية.

 

على الرغم من أن بعض الآيات القرآنية تخاطب جيل الصحابة وحده، فإن عامة الشيوخ تعدها خطابا للمؤمنين في كل زمان لاحق. ويحتجون بها في إثبات ما يسمى بحجية الحديث النبوي

لم يكن القرآن كتابا في الفلسفة حتى ينزل بنظريات تجريدية، ثم يطالب بصياغة الواقع على ضوئها كما فعلت النظرية الاشتراكية مثلا، بل صعد متدرجا من التجربة الواقعية التاريخية إلى مستوى التعميم على طريقة الاستقراء المنهجي. عاش التجربة مع زيد وبلال وعمر وسمية وعائشة وهند والحكم بن هشام، ثم استنطق هذه التجربة بالحُكم والحكمة والتعميم. وهذه الإستراتيجية اقتضت منه أن يتعامل مع ما هو زمني، وأن يدرج بعض هذه الوقائع الزمنية في المدونة القرآنية لتكون بمثابة الـ"كوتا" الزمانية. بمعنى أن الوحي قد منح فترة نزول القرآن وتأسيس المجتمع الإسلامي الأخير حصة خاصة من الخطاب القرآني باقية إلى يوم القيامة.

 

وفي هذا الإطار تندرج الآيات الخاصة بنساء النبي، والآيات الخاصة بشريحة العبيد وملك اليمين، والآيات الخاصة بجيل النبي محمد، فهذه جميعا آيات ذات موضوعات زمنية تخص جيلا معينا في زمن محدد، ولم يعد لنا منها سوى التلاوة والدلالة التاريخية، وبعض هذه الآيات غطى فترة زمنية تجاوزت حياة النبي نفسه، مثل تلك الآية التي تحذر مؤمني المدينة من المنافقين: "ومِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ". التوبة 101. فقد استمرت الدلالة الحية لهذه الآية إلى نهاية جيل الصحابة. لأن معانيها لن تتوقف بمجرد انقطاع الوحي، ما دام أن المنافقين المقصودين باقين على قيد الحياة، ولن تستمر بعد وفاتهم بالطبع.

 

لا مناص إذا من الاعتراف بوجود طائفة من الآيات القرآنية تخص جيلا معينا وزمنا محددا. وهذا الاعتراف لا بد أن يفتح الباب أمام سلسلة من الأسئلة المنهجية أهمها: كيف نميز بين ما هو زمني من هذه الآيات وما هو عابر للزمان؟ وما ثمرة هذا التمييز في الحياة الإسلامية؟ والجواب على السؤال الأول لا يحتاج إلى ذكاء، فالأمر فيه يرجع إلى القرائن العقلية واللغوية التي يعتمدها اللسان العربي في إنتاج الدلالة، كما عرفها أهل الاختصاص. وقد أسقطنا بوعي القرائن المقامية لسببين: الأول أنها غير متوفرة بين أيدينا، والآخر أننا نتعامل مع القرآن بوصفه كتابا عابرا للزمان والمكان في مجمله، ومن ثم فهو غير محكوم بكل شروط اللحظة التي نزل فيها، وهو ما عبر عنه الأصوليون بقولهم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

 

إلا أن القرائن العقلية واللغوية لن تكون واضحة للجميع طوال الوقت، فهناك طائفة من الآيات لا تتوفر على قرائن حاسمة كالتي شاهدنا في الآيات الماضية. أعني تلك الفئة من الآيات التي تخاطب المؤمنين في زمن النبي وتأمرهم بطاعته. كقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا. الحشر 7. وقوله: مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. النساء 80.

 

مع أن عددا من الفقهاء قد تنبهوا إلى وجود مقامات نبوية مختلفة لكنهم لم يصلوا بها إلى مستوى النظرية العامة، ولم يوظفوها بفعالية في مجال تأويل القرآن الكريم وتفسيره
مع أن عددا من الفقهاء قد تنبهوا إلى وجود مقامات نبوية مختلفة لكنهم لم يصلوا بها إلى مستوى النظرية العامة، ولم يوظفوها بفعالية في مجال تأويل القرآن الكريم وتفسيره
 

وعلى الرغم من أن هذه الآيات تخاطب جيل الصحابة وحده، فإن عامة الشيوخ يعدها خطابا للمؤمنين في كل زمان لاحق. ويحتجون بها في إثبات ما يسمى بحجية الحديث النبوي. ولا يتنبهون إلى المشكل الذي سيقعون فيه بعد ذلك عندما يقر جمهورهم بأن النبي يتصرف في مقامات عدة -غير مقام الرسولية والتبليغ- منها مقاما الاجتهاد وولاية الأمر، وهما مقامان زمنيان لا دينيان، فإقرارهم بهذين المقامين يلزمهم أن يضعوا إستراتيجية نقدية واضحة تميز بين ما صدر عنه في مقام تبليغ الرسالة، وما صدر عنه في مقام الاجتهاد وولاية الأمر وبقية مقاماته البشرية، حتى لا يخلط المتلقي في الأزمنة اللاحقة بين هذه المقامات ويقع في المحظور.

 

إذاً فإن هذه الطائفة المشكلة من الآيات لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا في ضوء نظرية المقامات المحمدية. لمعرفة ما إذا كان الخطاب فيها صادرا عن مقام الرسولية العابر للزمان والمكان، أو عن مقام ولاية الأمر الخاص بزمن النبي وحده. ومع أن عددا من الفقهاء قد تنبهوا إلى وجود مقامات نبوية مختلفة لكنهم لم يصلوا بها إلى مستوى النظرية العامة، ولم يوظفوها بفعالية في مجال تأويل القرآن الكريم وتفسيره. فتسبب هذا القصور في حدوث مشكلات، كان أخطرها إدراج النص التاريخي الزمني في دائرة المقدس الديني تحت عنوان حجية الحديث النبوي! وهو الأمر الذي فخخ العقل الإسلامي بالأوهام، وكان سببا في النصيب الأكبر من حالات الشك والنقد والتشويه التي لحقت الإسلام في العصر الحديث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.