شعار قسم مدونات

التمثلات الخاطئة حول القانون (5).. النقد التكاملي للقانون

blogs القانون

لما كانت أزمة القانون عامة، فإن النظر في هذه الأزمة، ووضع سبل لتجاوزها، يحتم على المهتم أن يبسط الكلام في ثلاثة تمثلات للقانون، وهي القانون كنظر، والقانون كبحث، والقانون كممارسة، وأن يبين مظاهر أزمة القانون في التمثلات الثلاث، وسننطلق في هذا البسط من خلال الدعوى التالية:

"إن القانون كنص لا يرقى أن يكون سوى وسيلة في يد الفيلسوف والباحث والممارس، بل هم من يضفون عليه المعنى". ولما كانت هذه الدعوى غير محققة، فإننا سنستدل على صحتها، ونبطل النظر والبحث والممارسة الفاسدة للقانونيين من خلال ما يلي:
 

نفور القانونيين من العلمية وآفة "التقنية".. النظر الفلسفي نموذجا

لقد حمل بعض القانونيين كلامنا السابق -أي ما كتبناه حول نقد القانون ومحاولة ربط الاتصال بين القانون والعلم- على دلالة غير الدلالة التي كنا نقصد، لذلك سنحاول أن نجدد الكلام في هذا الاتصال وبيانه على الوجه الأكمل حتى ندفع آفة التقنية ونصحح أذهان القانونيين، ولنأخذ النظر الفلسفي نموذجا لهذا الاتصال.

أعلم أن انتصارنا للفلسفة، يكون باتصاله الإيجابي بالقانون، أما انتصارا للفلسفة هكذا دون اتصال، فما كان هذا انتصار، بل لا يصح، أن يقابل مضمون بمضمون دون البحث عن أوجه العلاقة، ولتبيان العلاقة وتوضيحها نستدل ونفحص هذه العلاقة من خلال دعوى" الاتصال التداولي بين القانون كمعطيات والعلم كفاحص لهذه المعطيات"، ونستدل على هذه الدعوى بالآتي:
  

من البدع التي اجتاحت البحث العلمي في القانون اجتياحا غير مسبوق، هو تفضيل المقررات القضائية غير المنشورة على المقررات القضائية المنشورة، فترى أساتذة القانون قد ضيقوا نظرهم في هذه المسألة

أ. أن صفة العلمية فيها نظر لوجهين:
* فأما الوجه الأول؛ فمرتبط بالأيديولوجيا المساوقة للنص القانوني، التي تفرض على دارسه أن لا يبحث في القانون كعلم، بل يبحث عن ظواهره لا معانيه، وأن ينتصر انتصارا أعمى، لبعض الأفكار الدغمائية، وإذا صح معه أن القانون يجب أن يبحث في معانيه لا مبانيه، فإن الواقع الذي يظهر عكس هذا الكلام يؤدي إلى وجود تمثلات خاطئة تتمثل مثلا في "التفرقة المزعومة بين القانون الخاص والقانون العام" ، وقد اتجه المفكر القانوني الفرنسي ميشيل مياي إلى اتجاه ينفي صفة العلم على القانون، وذلك لأن أساتذة القانون حسب رأيه يبعدون الطلبة عن الأسئلة الحقيقية والتي تكون الإطار العلمي القانون.

* أما الوجه الثاني؛ فينصرف إلى دراسة القانون أفقيا، من خلال الاكتفاء بالنص، كتقنية، ممزوجة بسوء تطبيق المنهج، وسوء استعمال الأحكام القضائية، حتى أضحى دارس القانون، يميل إلى التجميع لا الإنتاج المعرفي، وهذه مصيبة أخرى تزيد الأمر تعقيدا.

ب. أنه يجب إبداء ملاحظة متعلقة بعلمية القانون.. ونميز بين وجهين:
* أن القانون لما يكون في مرحلة الصياغة قد يظهر ذاك الالتقاء بين العلم والتقنية.
* أن القانون لما يصبح مادة مصاغة وينظر إليه عند الدارس فإن هذا الأخير يتحول بحكم الواقع إلى تقني، والحال أنه يجب أن يوظف الأمور التقنية، في إنتاج المعرفة والعلم، لا أن يقف في حدود التقنية، فتأسر بصره ونظره أسرا.
 

جهل القانونيين بالمنهج العلمي وآفتي "العبثية" و"الفوضوية".. التعامل مع الأحكام نموذجا

من البدع التي اجتاحت البحث العلمي في القانون اجتياحا غير مسبوق، هو تفضيل المقررات القضائية غير المنشورة على المقررات القضائية المنشورة، فترى أساتذة القانون قد ضيقوا نظرهم في هذه المسألة.

ويجوز أن يكون سبب هذا التشديد هو ممارسة الرقابة البحثية على الباحث، لتبيان مدى مجهوده وتعبه في البحث، وإن صح هذا الافتراض في جانبه المادي، فإنه لا يصح الاحتجاج به على وجه العموم، لأنه يظهر تعب الباحث الجسدي ولا يظهر تعبه الفكري، وهو المجهود المغيب، بل إن المجهود البدني قد طغى وبغى وتجبر، وصار الباحث يتهافت نحوه، وقد ضيع عقله، ثم إن البحث عن الأحكام غير المنشورة يؤدي إلى آفتين:

1- إحداهما: أن الباحث يضيع وقتا ثمينا في بحث عشوائي في المحاكم، خصوصا وأن البحث غالبا ما يتم من خلال أطراف الدعوى ونوع القضية، لذلك يحصل على أحكام قد لا تفيده في بحثه، بل لا معنى ولا مقصد فيها، لأن بعض الأحكام كتبت بنمطية، حتى إن الباحث ليجد قالبا واحدا أخدت به المحكمة ولم تغير إلا الوقائع، كما أن الباحث الفطن ليصادف أخطاء مادية في الأحكام نتيجة وجود قالب واحد تستعمله المحكمة فتغير المعطيات وتظل نفس العبارات في جل الأحكام.
 

لقد راج في الأوساط العلمية ببلاد المغرب اليوم دعوى تروم إلى إهمال الوقائع في تحرير الأحكام القضائية، وهذه الدعوى فاسدة

2- ثانيها: أن الباحث -دفعا لهذا الاعتراض والتضييق- يتهافت نحو جمع كثير من الأحكام وحشوها في البحث، دون ممارسة التحليل أو التفسير أو التأويل ، بل إن غايته هو إظهار مجهوده في جمع الأحكام، وإن صح أن الحكم بناء حجاجي ومنطقي، فإنه يصح معه أن يتعامل الباحث مع الحكم القضائي باستدلال برهاني وتفسير وتأويل حجاجيى لغوي.

بعد توضيحنا لبدعة هذه الدعوى حيث خلفت آفتين، الأولى؛ "عبثية اختيار الأحكام"، والثانية؛ "فوضوية التعامل مع الأحكام"، جاز لنا أن نعترض على هذه البدعة بما يلي:

 أولا: أن النص القانوني والحكم القضائي هما معطيان يحتاجان من الباحث ممارسة المنهج العلمي عليهما، بحيث لما كان الإداري يمارس المنهج الإداري في تنفيذ النص القانوني والحكم القضائي، فإن الباحث يجب عليه أن يضفي على النص القانوني والحكم القضائي سمة العلمية، وبذلك يتم دفع آفة الدغمائية أي الوثوق بكل ما صرح به المشرع والقضاء، دون فحصه، بتحويل نصوص القانون والأحكام القضائية إلى فروض، ثم البحث عن صحة هذه الفروض من عدمها، بمنهج عقلي بالأساس، لأنه يلاحظ أن البحث العلمي في القانون يلغي العقل.

 

 ثانيا: أن الحكم القضائي العبرة فيه بالكيفية؛ أي في مضمونه وفي ما استدل به وحاجج به أطراف الدعوى، لا بالكمية أي بشكله وعدده، ولو اطلع الباحثون على البحوث المقدمة في فرنسا على اعتبار أننا تابعين للنسق الفرنكفوني -فلا عقل لنا ولا اجتهاد، بل نردد ما أنتجه الفرنسيون- سيجد الباحث دلالات على الاستعمال البرهاني والنوعي للأحكام في بحوثهم فلا يستعين بالحكم إلا عند الضرورة المنطقية والعلمية. أما نحن فنمارس البحث العلمي بلا عقل، وقد استبدت بنا آفتي "العبثية" و"الفوضوية"، ولا سبيل لنا للنهوض العلمي لعلم القانون إلا بتجاوز هذين الآفتين.

 

تهافت القانونيين نحو الممارسة وآفة "التفتيت".. تحرير الأحكام نموذجا

لقد راج في الأوساط العلمية ببلاد المغرب اليوم؛ دعوى تروم إلى إهمال الوقائع في تحرير الأحكام القضائية، وهذه الدعوى فاسدة، وإن أصحاب هذا الرأي لا يخرجون عن هاتين الفئتين:

فئة أولى تجهل كنه القضاء وباطنه، بل تتوسل في نظرها في هذا الجهاز ظاهر الأمور.
فئة ثانية تتكسب من القضاء تكسبا ماديا، وتعلم أنها متكسبة به، بل تراها تنقلب في خطابها كلما نبهت عما تقترفه من جرم خلقي في حقيقة القضاء والعدالة، وتراها تصور نفسها تصوير مغايرا لواقعها.

لا يصح أن يكون الحكم من زاوية المنطق حكما دون وجود الوقائع، ويستفيض في مناقشتها وأن يمحصها تمحيصا
لا يصح أن يكون الحكم من زاوية المنطق حكما دون وجود الوقائع، ويستفيض في مناقشتها وأن يمحصها تمحيصا

ونرد على هذه الدعوى وعلى هاتين الفئتين من الوجوه التالية:

الأول: أن الوقائع متصلة مع القانون اتصالا يجعل منها انعكاسا لعمل القاضي، فمن الأمور المهمة في حكم القاضي تمحيصه للوقائع تمحيصا يجعله يصل للثكييف القانوني الملائم، ولذلك اعتبر أمرها ضروريا في الحكم، ومن يقول إنها تستنزف وقت القاضي؛ فهو إما جاهل بكنه القضاء أو متكسب به تكسبا غير خلقي في ضوء الفئتين السابقتين.

والثاني: لما كانت الواقعة مساوقة للقانون، فإنه يجب على القاضي أن يضبط الواقعة عن طريق الأبعاد المكونة لهذه الواقعة سواء البعد السوسيولوجي أو الفلسفي أو النفسي أو أي اعتبار آخر يلف الواقعة لفا، فيصبح البحث عن التكييف القانوني سهلا، إما تفسيرا عن طريق دلالة قطعية أو تأويلا عن طريق دلالة ظنية.

والثالث: أن الدعوى القضائية هي طريق منطقي يراد به الاقناع والاقتناع، في إطار الاستدلال، ولو تَعمقتَ تعمقا غير مألولف في مفهوم الدعوى لوجدته قريبا في أصله اللغوي من مفهوم الدعوى المنطقية والتي يراد بها تقديم الرأي وتقديم دليله، بالاستدلال عليه، استدلالا منطقيا.

والرابع: أنه إذا صح معه أن الدعوى القضائية هي حوار ومحاججة تستعمل فيها وسائل المنطق واللغة والحجاج والاحتجاج، وأن القاضي هو العقل الكامل لهذا الحوار المنطقي الاستدلالي، فإنه صح معه أيضا أن الحكم القضائي تجلي لهذا العقل، ومتى تبين أن هذا الحكم هو تجلي لعقل القاضي، لزم اعتباره نصا منطقيا يضم مقدمتين ونتيجة، ومتى عرفنا أن إحدى مقدماته هي حيثيات الحكم وما يناقش به القاضي من نصوص وأحكام، فإنه لزم اعتبار الوقائع المقدمة الأخرى. وبذلك لا يصح أن يكون الحكم من زاوية المنطق حكما دون وجود الوقائع، ويستفيض في مناقشتها ويمحصها تمحيصا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.