شعار قسم مدونات

زعيمُ التّيارِ الإلحادي في حزب الإخوانِ المسلمين

مدونات - رجل

قررتُ في عام 2012 أن أحاولَ الانخراط في المجتمعِ العربيّ الذي تركته لأحد عشرَ عاماً حينذاك، فاقتصرت علاقتي بمجتمعي على أهلي ورفيقين أو ثلاثة والكثير الكثير من الذكريات. وللأمانة فإنّ حيزاً كبيراً من قلبي -كنت وما زلت- أخصصه لمعزّة هذا المجتمع؛ ليس لأني مُبهَرٌ بعظمته، على العكسِ، فأنا اليومَ أسعى جاهداً إلى تغييره نحو الأفضل. ولكنّ تلك الذّكرياتِ التي صنعتها هناك جعلتْ من الصعبِ عليّ أن أنسلخَ تماماً عنه، فما زلت أذكر تلك الحاراتِ التي أمسكتُ فيها يدَ الحبيبة، وتلك الأشجارَ التي تمدّدتُ مع رفاقي تحت ظلّها نلعبَ الورَقَ، وتلك المطاعمَ التي تشاجرنا فيها مع أهلِنا لأنهم لم يعطونا من المالِ ما يكفي لنلعبَ "الفيشة" عشر مرات متتاليةٍ ونطلب المزيد. 

 

وأتتْ تلك الحربُ.. توقعنا لوهلةٍ أنّها مرحلةٌ قصيرةٌ، نمرّ فيها والبلدَ بمحنةٍ، ولكنّها امتدتْ رقعةً وزمناً وكان لا بدّ لي أن أزيلَ شعورَ الضّعفِ الذي ينتابني وأن يحلَّ مكانَه شعورُ الرغبةِ بتحسين الحالِ، حتى لو كان ذلك من المحال، فما هذا الجنونُ! أتريدُ التحسينَ، والبلدُ تذوقُ نارَ جهنم؟! 

 

قرّرتُ حينذاك أن أقومَ بعملٍ تطوعيٍّ أنشرُ من خلاله العلمَ وشغفه بلغةٍ محكيّةٍ بسيطةٍ، لِأُريَ النّاسَ من حولي كم هو عظيمٌ ذاك العلم، وكم نحن في حاجةٍ إليه وهو في حاجةٍ إلينا. أسميت تلك الحركةَ "الباحثون السوريون"، إذ إنّني كباحثٍ سوريٍّ أسعى إلى نشرِ ما أحبّه وأعشقه، فيرغبُ غيري في دخولِ التجربةِ ذاتِها. وبدوره، يقومُ بالشّيء نفسه. وحلمتُ حينذاك أنّها حركةٌ علميّةٌ للجميعِ، فالعلم أكثرُ الأمور ديموقراطيّةً. هو ملْكٌ لنا جميعاً، والرغبة في الحصولِ على الحقيقةِ هي الشرطُ الوحيدُ للاستفادة منه. 

 

وبمرور الزمن، تحوّلتِ الحركةُ من مجرّدِ محاولةٍ شخصيّةٍ إلى جهدٍ جماعيٍّ، وتحوّلتْ من حركة بسيطةٍ على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي إلى واحدةٍ من أكبرِ الحركاتِ العلميّة الشّبابيّةِ في العالم المتحدّثِ بلغةٍ عربيّةٍ، إذ يزيدُ عددُ متابعيها اليوم عن المليونين وعدد مقالاتها عن الثلاثة عشرة ألفًا، بمجهودٍ تطوعيٍّ بحت من متطوعينَ يزيد عددهم عن ألفِ متطوّعٍ على مرّ خمسةِ أعوا. فخرٌ لنا أنّنا استطعنا -حرفياً- إظهارَ أنّ العملَ الجماعيّ التطوعيّ -حتى إن لم يكنْ له مموِّلٌ- قادرٌ على أن يقومَ بما لا تستطيعُ بعض الحكوماتِ، بالرّغم مما تمتلك من قدراتٍ، على القيام به. 

 

يتناسى النّاسُ أن العواطفَ لا مكان لها في العلم، فلا وجهةَ نظرٍ في العلم، والبحث عن الحقيقةِ والبرهانِ والتجربةِ والدليلِ والمنطقِ فقط من تحكُم العلم وتُؤطّرُ إطاراتِه
يتناسى النّاسُ أن العواطفَ لا مكان لها في العلم، فلا وجهةَ نظرٍ في العلم، والبحث عن الحقيقةِ والبرهانِ والتجربةِ والدليلِ والمنطقِ فقط من تحكُم العلم وتُؤطّرُ إطاراتِه
 

الغريب في الأمر هو توقعاتي، فصدقاً لم أتوقّعْ ولا للحظةٍ أن يكونَ هناك -في عالمنا هذا- من يسعى جاهداً إلى محاربة من يسعى إلى نشرِ العلم! وإليكم الأسباب التي تدفعُ هؤلاء الأشخاص إلى محاربةِ حركاتٍ كالـ"باحثون السوريون" أو حركة السّعوديّ العلميّ أو غيرهما من الحركات العلمية:
  

1- التطوّرُ والكلام بنظريته، ويتناقل المحاربون معلوماتٍ تثيرُ الحزن في داخلي، فهي أكبر دليلٍ على عدمِ فهمِ النظرية، فمثلاً يقولون "ما زالتْ نظريّةً" أو "لماذا هناك قرود طالما يقول العلم إننا تطورنا منها؟" أو "ضحدتْ النظرية وأُثبتَ فشلها وأصبحت في مزبلة التاريخ"؟.. طبعاً كلها اتهاماتٌ تدلّ على عدم فهم للنظرية ولا حتّى محاولة فهمها.

 

 2- التوعية الجنسية، فهي أداة الحركاتِ العلميّة لنشر الرذيلةِ! فمن طالب أولئك الباحثين بالحديث في هذا الأمر؟ أليس من الأجدرِ بهم الحديث في ما يهمُّ الناس في يومياتِهم؟ لماذا هذا التركيزُ على هذه الأمور الوضيعة؟

  

 3- المثلية وطريقة تناولِ العلم لهذه المسألة، فبغضّ النظرِ عمّا يتناقله الناسُ من أقاصيصَ، فإنّ العلمَ اليومَ لا ينظر إليها على أنّها مرض أو ما شابه، وهذا ما يزعج الكثيرين. 

  

أن تحاولَ تغييرَ مجتمعٍ نحو الأفضل هو ما نتمنّاه جميعاً، أن تنجحَ فيه هو أمر نادرٌ، ولكنْ من سابع المستحيلات ألا تتعرضَ لقذفٍ وشتم وتخوينٍ وتتفيه ونقد
أن تحاولَ تغييرَ مجتمعٍ نحو الأفضل هو ما نتمنّاه جميعاً، أن تنجحَ فيه هو أمر نادرٌ، ولكنْ من سابع المستحيلات ألا تتعرضَ لقذفٍ وشتم وتخوينٍ وتتفيه ونقد
  

يتناسى النّاسُ أن العواطفَ لا مكان لها في العلم، نحن لسنا هنا لندافعَ عن وجهةِ نظرٍ، فلا وجهةَ نظرٍ في العلم، والبحث عن الحقيقةِ والبرهانِ والتجربةِ والدليلِ والمنطقِ فقط من تحكم العلم وتُؤطّرُ إطاراتِه. وبسببِ مدافَعتي الشرسةِ عن هذه الحيثيةِ بالضبطِ "العلم لا يتكلم فقط بما يعجبنا" اتهمتُ، أنا كما شركائي المقربين، بأنّني رجلٌ من رجالاتِ الإلحاد في الوطن العربي، وبأنني أسعى إلى دسِّ السّمّ في العسلِ، وبأنّني كافرٌ مجحفٌ بتعاليمِ اللهِ وشرائعه.. ولكنهم لا يعرفون ما هو ديني أصلاً، ولم أتفوّه لحظة بمواقفي الدينية، فهو لي، ولا حقّ لأحدٍ عليّ أن أشاركه هذا الموقف، دعوني وشأني، أنا لم أسألهم عن راتبهم الشهريّ، ولا عن مواعيدِ الحيض لديهن، ولا حتى عمّا إذا مارسوا الجنس أو مواعيده. دعوني وشأني بحقّ السّماء. 

 

السخريةُ الحقيقيةُ أتتْ عندما دافعتُ عن العلم وطالبت مَن يريدُ، وبأيّةِ تكلفةٍ، بعدم إقحامِ الدّين فيه، أو العكس، ممن يريدون إقحامَ العلمِ في الدين لإثباتِ أنّ الدّين على خطأ. لست هنا لأقيّمَ هذا أو ذاك، فلا أنا ختمتُ تعاليمَ الأديانِ السّماوية كلها، ولا أنا خبيرٌ فيها، ولا أنا ملمٌ بكلّ ما اكتشفه العلم. فرغم حيازتي على شهادة الدكتوراه اكتشفتْ ضعفي واضمحلالَ معرفتي في هذا الكونِ العجيبِ، فطلبتُ، مراراً وبصيغٍ مختلفةٍ، ألا يُقحمَ هذا ضدّ ذاك، فلا نملك الوقتَ الكافيَ لنفهمَ العلم جيّداً بدلاً من المُهَاتَرَاتِ ومن إشعالِ الحرائق بين العلم والدين، لنستثمر وقتنا على نحوٍ أفضل. ولكن ذلك كلّفني الكثير، واستُحْدِثَتْ مقالاتٌ من قبَل بعض الملحدين المتعصبين يتّهمونني ورفاقي ممن دعموني بأني رجلٌ يسعى إلى نشر الفكر الإخواني بين الشّباب العربيّ، بدعوتي إلى ألا يُقحَم العلمُ ضد الدين، وكم هي كثيرةٌ تلك الأمثلة التي تثبت خطأ الدين علميّاً. مرة أخرى، اتهمت جزافاً على أنني ناشرٌ لدعوة فكرية دينية هذه المرة. 

 

فبحمده ونعمته أصبحتفي بنظرِ الناس زعيم التّيار الإلحادي في حزب الإخوان المسلمين، وهذا بسبب موقف اتخذته، بل لنقُلْ لمجرّد مجموعةٍ من المواقفِ التي اتخذتُها وكلّفتني ولا تزال تكلّفني. ومازالَ والدي يسألني: بحقّ السماء لماذا تقحم نفسك في دهليز كهذا، وجوابي هو نفسُه دائما منذ خمسةِ أعوام: أن تحاولَ تغييرَ مجتمعٍ نحو الأفضل هو ما نتمنّاه جميعاً؛ أن تقوم به هو ما يعملُ عليه القلائلُ، وأن تنجحَ فيه هو أمر نادرٌ. ولكنْ من سابع المستحيلات ألا تتعرضَ لقذفٍ وشتم وتخوينٍ وتتفيه ونقد، فلكل فعلٍ ردّة فعل. حتى لو أنّي في نظرِ نصفِ الموالاة معارضٌ وفي نظر نصف المعارضة مُوالٍ، وحتى لو عُدِدْتُ إخونجيّاً ملحداً، يمينياً يسارياً، مشمألاً كنت أم مجنباً. المهم أنّني أنامُ على مخدّتي وأعرفُ أن ضميري مرتاحٌ، وأذكّر زوجتي في كلّ ليلة… لا تكتبوا "الفاتحة" على حجر قبري، بل اكتبوا على الحجر أنني على الأقل قد حاولت تغييرَ مجتمعي نحو الأفضل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.