شعار قسم مدونات

الإسلاميون في بيئة الصراع الدولي.. معالم أساسية (5)

BLOGS تركيا روسيا إيران

نستكمل ها هنا الفكرة السابقة حول التشبيك بين الفاعلين الإسلاميين في بيئة الثورات العربية ومحدداته المتعلقة بالترتيب الدولي والإقليمي.

 

محدد الأمن الدولي

علينا أن نرسم صورة مجملة لواقع الأمن العالمي وموقع الصراعات في الساحة العربية منه أولا، ومن ثم نرى كيف يمكن لنا جميعا أن يكون لنا دور في ما يحدث على أرضنا؟ إذا نظرنا إلى الصورة الإقليمية فيجب علينا الانتباه إلى محدد أساسي في سياسة إيران الإقليمية التي تحكم توسعاتها، وهو محدد الحصار المفترض على إيران، فإيران ربما تكون الدولة الوحيدة التي يحدها من جميع حدودها بلدان بها قواعد عسكرية أمريكية من تركيا إلى العراق إلى الخليج إلى باكستان إلى أذربيجان، وفي الوقت ذاته هي في حالة تمرد أو مروق على الإرادة الأمريكية منذ تأسيس نظامها السياسي الحالي.

 
وفي الوقت ذاته هي دولة حبيسة للجغرافيا التي تشكلها، وربما تكون البلد التي يحد عاصمتها من جميع الجوانب جبال وتقطع الصحارى والجبال كذلك خاصرتها بما يمنع وجود اتصال بين حواضرها الرئيسية من العاصمة طهران، إلى قم، إلى مشهد، إلى شمالها التركي في تبريز، إلى الجنوب والجنوب الشرقي في الأهواز وبندر عباس إلى كرمنشاه وهمدان إلى أذربيجان الغربية وكردستان إيران، حيث يسكن في كليهما التركز الكردي في إيران.. كل هذه المناطق ليس لديها الاتصال الجغرافي وتقطع خاصرتها الصحراء، لهذا فإيران محاصرة من داخلها بفعل الجغرافيا، كما هي محاصرة من حدودها.

 

وأظن أنه لا يمكن أن تكون سياسة إيران الإقليمية والدولية "موضوعا للفهم" بدون فهم تلك المحددات البديهية، فإذا كانت بروباغندا الإعلام الداخلي لإيران تركز على خطاب أن وجودهم في سوريا والعراق هو حرب ضرورة لأنه إذا لم يوجدوا هناك فإن أعداءهم سينقلون المعركة التالية إلى داخل إيران، فإن هذا يعبر إلى حد ما كذلك عن العقلية الإستراتيجية الحاكمة للنظام السياسي هناك. ويمكن استشفاف ذلك من قراءة بعض الأطروحات لقادة إستراتيجيين إيرانيين مشهورين، مثل محمد باقر قاليباف، قائد القوات الجوية سابقا في الحرس الثوري الإيراني، وكذلك المرشح السابق عن التيار الأصولي في الانتخابات الرئاسية في 2005 والمقرب من قيادات الحرس الثوري الحاليين؛ فرسالته للدكتوراه كانت عن الجغرافيا السياسية لإيران وهي تشرح بوضوح نموذج الفعل الإيراني في تمددها الحالي، الذي يمكن التعبير عنه بحصار الحصار أو القفز على الحصار من خارجها ومن داخل جغرافيتها وكذلك.

قائد الحرس الثوري السابق الجنرال
قائد الحرس الثوري السابق الجنرال "محسن رضائي"  (رويترز)

فقائد الحرس الثوري السابق الجنرال محسن رضائي يشرف أيضا على موسوعة في الجغرافيا السياسية تشرح نظريات تفاعل إيران في نطاقها الحيوي، وبالتالي فإن إيران تعمد إلى ما يمكن تسميته سياسة اليد الطولى، أي أن تكون لها يد طولى في جميع بيئات الصراع التي تمثل توتر ومناوئة لها قادرة على الضرب ضد أعدائها في أي لحظة، تلك اليد الطولى يمكن التعبير عن تمظهرها من حزب الله إلى الحشد الشعبي في العراق إلى أنصار الله في اليمن إلى حتى الميليشيات الشيعية الأفغانية إلى غيرهم، وتحول إيران من أن تكون يدها الطولى معتمدة على عمقها الإسلامي إلى عمقها الطائفي المحض؛ وهذا موضوع يطول شرحه وتحليله وخارج عن سياقنا، فقط ننبه إلى مدخل عقلية الحصار وما تفرضه من تبعات ادت لحالة الصراع الحالي بمنطقتنا.
 

في المقابل، فإننا كذلك كنا أمام تحول سوريا إلى ساحة وموضوع لما يسمى إستراتيجية الدرع الصاروخي لحصار روسيا وحلفائها، أي إيران تحديدا في جميع المجالات الحيوية الجغرافية التي تنشط فيها. وفي الطور الأول من الصراع على سوريا حاولت تركيا أن تنخرط في تلك الإستراتيجية فنشرت منظومة "باتريوت" على حدودها مع سوريا بالتعاون مع "الناتو". وكانت تركيا تريد في المقابل موافقة أمريكا على المقاربة التركية للصراع في سوريا القائمة أساسا على ما سمتها تركيا إستراتيجية المناطق الأمنة الأربع في سوريا، ولكن هذا لم ينجح ولم توافق أمريكا لا خلال إدارة أوباما ولا ترمب؛ لذا فبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 علقت تركيا نشر صواريخ "باتريوت"ّ وفضلت الاتجاه نحو مقاربة ثلاثية مع روسيا وإيران. وفي المقابل تسلمت منظومة "إس 400" من روسيا، أو للدقة هي في طور تسلم تلك المنظومة الصاروخية.

 
وهذا يقود إلى الملمح الثالث في معادلة الأمن التي تجري في بيئة الصراع العربي الحالي، ما يمكن تسميته ظاهرة التحلل من أطر وأوعية الأمن الجماعي الدولية مقابل صعود أنظمة أمن أكثر إقليمية، فتركيا الآن بالرغم من شراكتها الفعالة والإستراتيجية في منظومة أمن الناتو، والتي لا يمكن تحليل اتجاها لشراء "إس 400″من روسيا فإنها تمثل تحللا من شراكتها في الناتو. ولكنها في المقابل تسعى إلى دور فرداني وأكثر إقليمية في التعبير عن أمنها. وكما نوهنا في التدوينات السابقة، فإن دخولها على خط الأزمة الخليجية يعبر عن رغبة في أن تدخل بمنظومة الأمن الخليجي في الفراغات التي تتركها الإدارة الأمريكية الحالية.

لا أظن أن روسيا كانت تريد في بداية تدخلها العسكري أن يفضي إلى وجود على شكل قاعدة عسكرية في سوريا وإنما نجاحها في مهمتها هو الذي جعلها تتوسع في أهدافها
لا أظن أن روسيا كانت تريد في بداية تدخلها العسكري أن يفضي إلى وجود على شكل قاعدة عسكرية في سوريا وإنما نجاحها في مهمتها هو الذي جعلها تتوسع في أهدافها
 

ولعل هذا أيضا هو الملمح الأساسي لمسألة الأمن العالمية التي تلقي بظلالها على بيئتنا العربية وهي تحلل أمريكا من منظومات الأمن الجماعية من الأمم المتحدة إلى الناتو، وهذا كان العنوان العريض والرئيسي لمؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير 2017، أي التحول نحو الأمن الفرداني او الفوضوي والتحلل من منظومات الأمن الدولية في المسعى الأميركي الحالي، وكان هذا هو الانتقاد الأساسي الذي وجهته المستشارة الألمانية ميركل لإدارة ترمب. ويمكن الاطلاع على ملخص مؤتمر ميونيخ للامن العام الماضي من هناوفي هذا المؤتمر كذلك عبر الرئيس الأميركي ترمب عن مقاربة بلاده للأمن في الشرق الأوسط، وهو التماهي التام مع الرؤية السعودية،التي تقتضي برؤية إيران المهدد الرئيسي للأمن في المنطقة.

 

الملمح الثالث الذي يقرره الصراع في منطقتنا هو جعل تلك المنطقة بمثابة تجميع لحسابات الصراع العالمية، فإن الأمن في شرق أوروبا ومشكلة أوكرانيا والقرم تتم مقايضته بالأمن في الشرق الأوسط، وهنا يجب أن ننتبه إلى معضلة مهمة وهي أن درجة ومقدار العنف في سوريا وطول مدته ووحشيته تعد خرقا لما تم بناء النظام الدولي عليه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فبشار الأسد من تلك الجهة ناجح لأنه استطاع إنجاز هذا الكم الهائل من الدمار والقتل الذي تعدى المليون إنسان والتهجير الذي طال حوالي ثلث الشعب السوري، ورغم ذلك استطاع أن يكمل حتى ألان ولديه إمكانية لمزيد من الاستكمال بدون أي إشكالية، لماذا؟ لأنه ببساطة حصل التواطؤ على أنه طالما العنف في سوريا يبقى في سوريا وغير قابل للتشظي والتمدد وتتم مقايضة سوريا بالأمن في مناطق أكثر حيوية مثل شرق أوروبا والقوة الدولية ليس لديها من تدافع عنه أمام العنف الوحشي والمفرط في سوريا فحسنا إذن، ليستمر هذا العنف! وتلك هي فلسفة الأمن الدولي بالأساس، أي لن يتحرك أحد من أجلك طالما أن استخدام القوة المفرطة ضدك لن يؤدي إلى تهديد مفرط يسبب خلل في الأمن الدولي!

ولذلك أيضا فإن روسيا تعالج ما تبقى من مشكلتها الشيشانية في سوريا، فبعد أن تمت لها السيطرة على الشيشان بعد استيلاء قاديروف الأب، ثم الابن، على الحكم في الشيشان اختار المتبقون من مجاهدي الشيشان الانخراط في منظومات عنف دولية، مثل القاعدة، ومن ثم اختاروا سوريا أرضا لحربهم مجددا مع روسيا. ومن ثم فروسيا كذلك أدمجت قوات شيشانية ضمن قواتها العسكرية المتدخلة في سوريا. والآن على سبيل المثال فقوات الأمن بحلب بعد اجتياحها هي قوات شيشانية موالية لروسيا وتابعة لقاديروف.

 

تستخدم إيران هذا العنف الوحشي في سوريا لأنه ليس هناك مهدد مقابل لاستخدامها هذا العنف طالما أن الإطار السياسي الواسع قد تم ترتيبه مع الاتفاق النووي

وفي المجمل فإن تحليل سلوك اللاعب الروسي في الصراع العربي الحالي هو أن مبعثها كما إيران كان في البدء التحرك لمواجهة إمكانية حصار عليها، سواء من الدرع الصاروخي أو معالجة الأزمة والتهديد الأمني لها في الشرق الأوسط بدلا من أن ينتقل إليها في القوقاز. وبالطبع إمكانية الوصول الدائمة إلى المياه الدافئة ثم انتقلت الآن إلى طور جديد وهو إعادة رسم فضائها الأوراسي، أي مجالها الحيوي ما بين آسيا وأوروبا، وكذلك الالتفاف حول البحر المتوسط في إطار إستراتيجية علاقتها الدائمة مع أوروبا التي قدمنا أحد محدداتها بأن تكون روسيا هي محتكر طلب الطاقة الأوروبي. ولمن يريد المراجعة يمكن الرجوع إلى كتاب المنظر السياسي الروسي الشهير أليكساندر دوجين، وهو مستشار لبوتين (Eurasian Mission: An Introduction to Neo-Eurasianism).

 
وحتى بتحليلي الشخصي فلا أظن أن روسيا كانت تريد في بداية تدخلها العسكري أن يفضي إلى وجود على شكل قاعدة عسكرية في سوريا وإنما نجاحها في مهمتها هو الذي جعلها تتوسع في أهدافها. وعلى هذا المنوال أيضا تجري تصفية الحساب مع إيران، فإذا رجعنا إلى المفاوضات التي أفضت إلى توقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب فإن تلك المفاوضات كانت قائمة على أساس مركزي من قبل الغرب وهو مقايضة الدور الإيراني بمحيطها الحيوي مقابل صفقة البرنامج النووي، ليس بمعنى تخللي إيران عن دورها التمددي والإقليمي وإنما أن يكون دورها الإقليمي خاضعا للتنسيق والاشتباك مع المنظومة الدولية أو الأمريكية وتقاسم الأدوار بين أمريكا وإيران في العراق كان نتيجة لتلك الفلسفة.
 
وكذلك حدود وإطار الصراع في سوريا واليمن كانت نتيجة لتلك الفلسفة؛ وهذا كله في إطار عنوان أوسع وهو كيفية تحويل إيران من دولة مارقة إلى إدخالها في النسق الدولي من جديد؟ وإذا تم هذا فإنه حينذاك يكون امتلاك إيران برنامجا نوويا هو جزء من توازن الأمن الدولي وليس تهديدا له، على أساس أنه حينذاك سيتم توزيع القوة بين إيران وخصومها أي إسرائيل والخليج، ومن ثم سيكون الفعل الإيراني قابلا للحوكمة. وهذه الفكرة تحديدا عبّر عنها كينيث والتز، أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي الشهير ورائد مدرسة الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية، في مقاله الشهير في مجلة "فورين بوليسي" المعنون بـ "لماذا يجب أن تمتلك إيران القنبلة النووية"؟!

لهذا ببساطة أيضا، تستخدم إيران هذا العنف الوحشي في سوريا لأنه ليس هناك مهدد مقابل لاستخدامها هذا العنف طالما أن الإطار السياسي الواسع قد تم ترتيبه مع الاتفاق النووي. ولهذا فإيران الآن تتراجع خطوات إلى الوراء في اتجاه تركيا بما أن إدارة ترمب، كما ذكرنا، تتراجع كذلك عن تلك الفلسفة التي بني عليها هذا الاتفاق النووي، وكذلك بما أن إيران أنجزت المهمة الأساسية لها وتعدت مرحلة الخطر بالنسبة لوجودها في سوريا..

 

والإطار الأوسع لهذا كله هو التنازع بين رؤيتين لما يجب أن يكون عليه الأمن العالمي: هل يكون مستندا إلى التوازن في القوة العسكرية، وبالتالي من يمتلك مقدرات نووية ومقدرات صاروخية عابرة للقارات ومقدرات صاروخية دفاعية قادرة على ردع هجوم شامل أم مستندا بالأساس إلى الاقتصاد الدولي ومن يمتلك مفاتحه من موارد الطاقة إلى التصنيع فائق التكنولوجيا إلى منظومات الاتصالات العالمية إلى إدارة السياسة المالية العالمية؟ وبتبسيط: هل نموذج كوريا الجنوبية ام الشمالية؟

 

نحتاج لأمن عربي جماعي مستقل وغير خاضع للتبعية لأي طرف إقليمي أو دولي وموجه بشكل رئيسي لعدونا الأساسي والأصلي أي إسرائيل ولخدمة قضيتنا المركزية، أي فلسطين

الملمح الأخير في تقرير الأمن الدولي الذي يجري على أرضنا وفي صراعتنا الحالية هو تصادم نظريتي للأمن وهما الأمن الإنساني مقابل الأمن القومي؟ اختصارا، فمفهوم الأمن القومي قائم على الأمن من منظور مصلحة الدولة العليا والذي يقرره هم القائمون على الدولة بينما الأمن الإنساني، كما هو واضح من تسميته قائم انطلاقا من أمن البشر الذين يعيشون داخل الدولة وتقرره عدة مستويات من الدولة إلى منظمات المجتمع المدني والمنظمات العالمية، وهو يعبر عن رؤية للعالم أكثر ليبرالية وأكثر أناركية. وقد تمت صياغة مفهوم الأمن الإنساني ابتداء منذ تقرير الأمم المتحدة للتنمية عام 94 وتم وضع إطاره النظري ومعاييره، من المعيار الغذائي والصحي والاقتصادي والتنموي.. إلخ. لكنه عند التطبيق اخذ منحى مختلفا وهو أنه كان يعبر عن إرادة المنظمات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد، أن تكون فوق إرادة أنظمة الحكم المحلية في الدول. ويمكن تلخيص المشاكل التي واجهت هذا المفهوم على امتداد 24 عاما حتى الآن هكذا: هل السيادة للأنظمة الوطنية أم للمنظمات الدولية؟!

 

ومن ثم فبالعودة إلى فكرة المناطق الآمنة في الصراع السوري لو كانت تمت كما هي بالتصور التركي الأصلي ونجحت كانت ستمثل انتصارا لرؤية الأمن البشري قبل الأمن القومي في إدارة الصراع بين المتحاربين في سوريا. ولكن كانت العقبة الأساسية التي تواجه هذا المقترح هي أن تكون تلك المناطق الآمنة هي ببساطة عبارة عن مناطق أمنة لفصائل الثورة السورية في التدريب والتسليح والإمداد تنطلق منها نحو مناطق الصراع مع النظام وحلفائه!

 
على كل، هذا تصورنا لمحددات الأمن الدولي في الصراعات التي تخوضها الثورات العربية، وكما نرى فحسمها هو الذي سيحدد بشكل كبير كيف سيسير العالم في تقرير أمنه؟ فكيف نستطيع نحن كمنتمين إلى فكرة الثورات العربية، والإسلاميين منا خاصة بما أنهم هم من يمتلكون روابط عابرة لكل الإقليم العربي، أن نقرر ذلك بدلا من أن يقرره غيرنا بما يجنيه من مكاسب نتيجة لصراعتهم على أرضنا؟

أظن أن الإجابة عن هذا السؤال تحدد من تحديد النقاط التي نسعى إليها، وأظن أنها يمكن أن تتلخص في تلك المطالب لنا جميعا وهي: أمن عربي جماعي مستقل وغير خاضع للتبعية لأي طرف إقليمي أو دولي، كما قررنا في أول تدوينة من هذه السلسلة وإدماج لكلٍّ من إيران وتركيا في منظومة أمننا الجماعي، ولكنْ في سياق من الندية والتساوي او التوازن، وليس تحت عنوان تمدد كليهما في فراغات القوة في منطقتنا العربية. وهذا الأمن العربي الجمعي موجه بشكل رئيسي لعدونا الأساسي والأصلي أي إسرائيل ولخدمة قضيتنا المركزية، أي فلسطين. وتفاعلنا مع العالم من حولنا الذي اتى ليتحارب على أرضنا هو تحت عنوان عالم متعدد الأقطاب يكون أكثر عدالة وأكثر حرية وأكثر آمنا وتوزيعا لموارده وينفتح على احتمالات لا متناهية في تركيب بنيته الدولية، فنحن نستطيع بنمونا الذاتي أن نكون مستقبلا كعرب قطبا من أقطابه.

 

إذا تحددت تلك المطالب وتم الاتفاق عليها فإنه وفق الصورة المرسومة أعلاه يتحدد توزيع المهام بين الفاعلين في بيئة الثورات العربية ووفقا لمدى تقدم كل حالة منها، فتونس هي التجربة الوحيدة من تجارب الثورات التي وصلت إلى شبه استقرار وتسوية بين الثورة والثورة المضادة، وليبيا نجحت الآن في الاتفاق على إجراء انتخابات، وحتى حفتر وافق عليها وستجرى في الفترة المقبلة، بينما سوريا واليمن ما زالا في خانة الحرب الأهلية، بينما ثورة مصر الآن في مرحلة الهزيمة وانتصار الثورة المضادة -وإن كان يمكن توقع أن مصر على حافة انفجار قريب، مع الأسف- فبالتالي يتم توزيع الأدوار لتحقيق كيفية التقاطع مع الصورة أعلاه وفقا لما قررنا في التدوينات السابقة من إدارة التناقضات وإدارة أحلاف مصالح مشتركة والوصول لاستقلالية فعلنا.

كيف يمكن الوصول لمناطق يمكن أن يلتجئ إليها الناس في سوريا لبناء معيشة ومجتمع خارج إطار الحرب الدائرة ويتحقق لهم بها الحد الأدنى من الأمن الإنساني ولا تكون خاضعة لسيطرة أي من أطراف النزاع المتعددة؟
كيف يمكن الوصول لمناطق يمكن أن يلتجئ إليها الناس في سوريا لبناء معيشة ومجتمع خارج إطار الحرب الدائرة ويتحقق لهم بها الحد الأدنى من الأمن الإنساني ولا تكون خاضعة لسيطرة أي من أطراف النزاع المتعددة؟
 

فبهذا مثلا إذا رجعنا إلى عنوان مؤتمر ميونيخ للأمن العام الماضي الذي كان بعنوان "Post truth، post west، post order" فكيف يمكن أن نصيغ تحركاتنا بأن تكون متقاطعة مع مطلب تركيا وكذلك إيران في مطلبهما لأدوار فردانية وإقليمية لهما في منظومة الأمن الدولي كما تقدم؟ بحيث بدلا من أن يكون فعلا هو خصم من رصيد القوة لكليهما فيكون اكتسابنا لمزيد من القوة يؤدي إلى مزيد من إعادة توزيع القوة العالمية عليهما؟ كيف يمكن اعادة إحياء فكرة المناطق الآمنة على خلاف ما كان مقترحا من تركيا في الطور الأول من الصراع على سوريا، وعلى خلاف ما يجري حاليا وفقا لمقررات الأستانة من كونها في النهاية هي إعلان استسلام وإذعان من الفصائل السورية وتسليهما لسلاحها ودخولها للمصالحة مقابل وقف جبهات النظام معها؟

 
بمعنى آخر، كيف يمكن الوصول إلى ما يمكن تسميته بدلا من المناطق الرمادية او المناطق المحايدة في سوريا وهي مناطق سيمكن وصفها بالأناركية بما أنه أصلا سوريا في حالة سيولة وليس بها دولة من الاصل! فكيف يمكن الوصول إلى مناطق يمكن أن يلتجئ إليها الناس لبناء معيشة ومجتمع خارج إطار الحرب الدائرة ويتحقق لهم بها الحد الأدنى من الأمن الإنساني ولا تكون خاضعة لسيطرة أي من أطراف النزاع المتعددة؟ ومن ثم فالمجتمع الذي يمكن أن يقام هناك هو ما يمكن توسعته لحل الأزمة السورية وإقامة مثل تلك المناطق سيطرح بداخله حلولا للمعضلة الديموغرافية التي هي أحد محددات جعل الأزمة السورية عصية على الحل.

 
مثل هذا سيتطلب توسعة مفهوم المناطق الرمادية ليتخطى حدود سوريا ويشمل مناطق اللاجئين مع حدودها مع تركيا والعراق والأردن ولبنان؛ ومن ثم سيتطلب هذا جهدا جماعيا من تلك الرباعية لإقامة تلك المناطق والتي يعد "الإسلاميون" كذلك فاعلا رئيسيا فيها، بل ويمكن نقل تلك الفكرة إلى بيئات الصراع الأخرى كاليمن، وحينذاك سنجد أننا نستطيع أن نجتذب كل الفاعلين لمفهوم الأمن الإنساني ليساعدونا في الحل وفقا لما نراه نحن أمنا إنسانيا، لا وفقا لما قررته الأمم المتحدة!

 
وكمثال فإن مقاربة الأوروبيين للأمن الدولي قائمة على مثل هذا، أي أمن جماعي أكثر ليبرالية تقوم عليه كل أطراف الصراع لكي يفضي إلى عالم على شاكلة الاتحاد الأوروبي! فمقاربة لخطوة جماعية مثل تلك ستجعل الأوروبيين ينخرطون فيها بدلا من أن انخراطهم أحد محدداته بتبسيط شديد: لندفع للأتراك ليتحملوا عبء اللاجئين السوريين بدلا عنا! ويمكن الاطلاع على مثل تلك المقاربة هناوحينها يمكن أخيرا للثورات العربية أن تكون مفتاحنا لنرجع في مركز العالم بدلا من كوننا على هامشه، وهو ما سنكمل شرحه في التدوينة القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.