شعار قسم مدونات

اللغة العربية مقدسة.. أي تقديس؟

blogs - اللغة العربية
تعدُّ اللغة واحدة من الخصائص الإنسانية التي ميزّت الإنسان؛ فقد كانت للثقافة وعاءً، وللإنتاج العقلي مستودعاً، من خلالها خزّنت الجماعة اللغوية تجربتها، ونظرتها لأحداث الكون. وقد ارتبطت اللغة قديما بالدّين، فاعتبرت كلّ حضارة لغتها الأجمل والأفضل، بل وقد وصل الأمر لاعتبارها لغة الربّ، ولغة الجنة، فكان أن افتخر كل قوم بلغتهم، في مقابل التقليل من شأن اللغات الأخرى وتحقيرها، وهنا نستحضر العبارة الشهيرة للطبيب والفيلسوف اليوناني "جَالِينُوس" (129-210م) الذي يقول: "لغة اليونانيين أفضل اللغات، لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع".

هذه النظرة تجاه اللغة التي جعلتها في خانة المُقدس؛ لها ما يُفسّرها من خلال علم الاجتماع، فالمقدس هو ما يقع بعيدا عن عوامل التدنيس، لأن جوهره المتعالي يقضي بأن يظل متسامياً. ويقول "روجيه كايوا" في كتابه "الإنسان والمقدس" إنّ المقدس "يبقى مصدر كل سؤدد وحظوة، ولا مندوحة لمن يصبو إلى تحقيق النجاح واكتساب الفضائل من التماس مؤازرته." (ص 11 ). وبالحديث عن اللغة العربية، فقد أضفى الإسلام عليها نوعا من القداسة، فهي ذات أهمية قصوى لدى المسلمين، كيف لا وهي لغة القرآن الكريم، الكتاب المقدّس الحامل لرسالة الخالق إلى من استخلف من مخلوقاته. ولذلك فاللسان العربي شعار خاص بالإسلام، ويصدق في هذا الصدد قوله تعالى: "وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ" (سورة الحج، الآية 32).

 

إذا ما قلّبنا أوراق الماضي، وجدنا أن رواد التراث العربي الإسلامي استطاعوا أن يُعالجوا أمر اللغة بعيون العقل المُتبصرة، بعيدا عن النظرة المثالية
إذا ما قلّبنا أوراق الماضي، وجدنا أن رواد التراث العربي الإسلامي استطاعوا أن يُعالجوا أمر اللغة بعيون العقل المُتبصرة، بعيدا عن النظرة المثالية
 

ففهم القرآن المقدس لا يتم إلا بوسيلة مقدسة، التي هي اللغة العربية. ونجد في هذا الصدد الدكتور "عبد السلام المسدي" في كتابه القيّم "الهوية العربية والأمن القومي"، يعتبر أن للعربية عند أهلها منزلة تاريخية أثيلة، ونزول القرآن بها كسبها منزلة خاصة لدى العرب ولدى كافة المسلمين، فقد أعانت الرسالة المحمدية اللغة العربية على أن تتوطّن في نفوس أهلها، فدخلت عالم المقدس من أبوابه الكبرى. (الصفحات 133-134). لكننا وفي حديثنا عن هذا التقديس المرتبط باللغة العربية، وجب علينا تجلية هذا المفهوم، وإبراز المقصود من هذا التقديس. إنّ المعضلة التي نجنيها من تقديسنا للغة العربية هي التوهّم بأنها محمية من السماء، فتجدنا نركن إلى التواكل في التعامل مع التحديات التي تواجهها، ظانّين بأنها محفوظة بما حُفظ به الذكر الحكيم، وبذلك لن يصلها شيء من تهافت المتهافتين، ومكر الماكرين.

وإذا ما قلّبنا أوراق الماضي، وجدنا أن رواد التراث العربي الإسلامي استطاعوا أن يُعالجوا أمر اللغة بعيون العقل المُتبصرة، بعيدا عن النظرة المثالية، ونذكر في هذا الصدد شيخ النحاة "ابن جني" (392ه) الذي عرّف اللغة بأنها "أصوات يُعبّر بها كل قوم عن أغراضهم"، كما نجد "ابن حزم الأندلسي" (456ه) -في معرض ردّه على من أخذتهم العزة بلغتهم لأن القرآن الكريم قد نزل بها- يقول: "وقد توهّم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات.. وهذا لا معنى له، لأن وجوه الفضل معروفة وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ"، وقال تعالى "فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ"، فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك.

إذن فبدل الإغراق في خطاب العاطفة الذي لن يُولّد لنا سوى خطاب مندفع فاقد للوعي، ينبغي سلك منهج متوازن يعتمد على الحكمة والعقل. فالنصوص المقدسة يلزمها التقديس، أما اللغة فيلزمها منّا الاحترام والتقدير، الذي قد نُسميه "تقديسا"، ولكنه تقديس يختلف عن النوع الأول، تقديس لا يعتبرها لغة للجنة أو لغة الخالق، ولا يحول بينها وبين التطور الطبيعي الذي تخضع له كل لغة إنسانية. فلنُقدّس لغتنا بتعريب الكلمات والمصطلحات الجديدة، إذ العربية لا تضيق بشيء من الأفكار والمخترعات الحديثة، فالموضوع يتعلق بالواقع الاقتصادي والعلمي والتعليمي ومستوى الجامعات وأبحاثها، والقضاء على الأمية ونشر التعليم وتطوير العلوم والتوظيف في الأبحاث الجامعية. فالمبالغة في اعتبار اللغة العربية مقدسة يُفضي بنا في أغلب الأحيان إلى التواكل والانخذال، فنقعد خلف هذا الوهم الخادع عن نُصرتها، مُتخيّلين قداسة ذاتية فيها، متناسين أن اللغة ظاهرة طبيعية واجتماعية، تولد وتنمو وقد تموت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.