شعار قسم مدونات

نحو عمران بشري أساسه الأخلاق

blogs - بناء

إن أساس بناء الحضارات متعلق بمدى تخلق الإنسان، وسبب خراب عمرانها ما هو إلا نتاج لتعقله، "فالإنسان إنسان بتخلقه وليس بتعقله" كما يقول الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن. وبما أنه لا يمكن للكائن البشري أن يصنع حضارة دون أن يتخلق، كان من الضروري أن يرتبط بالأخلاق ارتباطا جذريا ليساهم في إثراء مصادر طاقة التقدم "أنا أتخلق إذن أنا إنسان"، وبالتالي أنا أتقدم، وفي  الوقت نفسه أعمل على بناء العمران. إن حصيلة إسهامات أفراد بيئة ما في التقدم مرتبط ارتباطا وثيقا بتخلقه، فالأخلاق هي الموجه والمنظم الأساس لحياة الإنسان، وهي المسؤولة عن سلوكه الفردي والجمعي، "فكل من كان تمييزه أصح ورؤيته أصدق واختياره أفضل كان أكمل في إنسانيته، لأن أفعاله وقواه وملكاته التي يختص بها من حيث هو إنسان وبها تتم إنسانيته وفضائله هي الأمور الإرادية التي بها تتعلق قوة الفكر والتمييز". كما يقول ابن مسكويه في كتابه (تهذيب الأخلاق).

وبالتالي، فاختياراته الخيرية التي ائتمنه الله عليها متعلقة بصدق رؤيته وقدرته على الالتزام بما كلف به على الوجه الأمثل. فالله عز وجل خلقه وزوده بالعقل، وأعطاه القدرة على التميز بين الحسن والقبح، وجعله خليفته في هذه الأرض يقول الله تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة" (سورة البقرة: 30). وهيأ له الأسباب المناسبة لذلك، وجعل له دستورا أخلاقيا في كتابه المسطور هو بمثابة دليل يتوصل بالنظر فيه إلى المطلوب. وهذا الدستور هو عبارة عن مجموعة من التكاليف يترتب عليها في المقابل التزام أخلاقي. ولا يمكن للفرد أن ينحو هذا النحو وهو بعيد عن مدرسة تربوية تعينه على التخلق بمنهج القرآن. فالتخلق بأخلاق القرآن أساس بناء الفرد، والفرد المتخلق أساس بناء العمران.

والمنهج الصوفي يمكن اعتباره مدرسة تربوية يمكنها المساهمة في بناء أنموذج فرد متخلق، فالمنهج الأخلاقي عند المتصوفة مبني على بناء النفس الإنسانية التي تعتبر محور الشر والخير في الإنسان، يقول الإمام القشيري -رحمة الله- مبينا هذا: "وعند القوم ليس المراد من إطلاق لفظ النفس الوجود، ولا القالب الموضوع. إنما أرادوا بالنفس ما كان معلولا من أوصاف العبد مذموما من أخلاقه وأفعاله. ثم إن المعلولات من أوصاف العبد على ضربين: أحدهما ما يكون كسباً له، كمعاصيه ومخالفته. والثاني أخلاقه الدنيئة، فهي في أنفسها مذمومة، فإذا عالجها العبد ونازلها، تنتفي عنه بالمجاهدة". ومن كلام الشيخ يتضح أن الزهد والمجاهدة أنجع أسلوب لبناء أنموذج إنسان متخلق.

أغلب مشاكل الأمة أساسها الوازع الأخلاقي، فقد تجد الفرد يقوم بعبادته من صلاة وصيام، ولكنه يزني ويكذب ويسرق، وبالتالي ما لم تخضع نفوس الأفراد إلى التزكية والتربية، سيصبح الأنموذج الدوابي هو السائد
أغلب مشاكل الأمة أساسها الوازع الأخلاقي، فقد تجد الفرد يقوم بعبادته من صلاة وصيام، ولكنه يزني ويكذب ويسرق، وبالتالي ما لم تخضع نفوس الأفراد إلى التزكية والتربية، سيصبح الأنموذج الدوابي هو السائد
 

وقد ذهب السهروردي -رحمه الله- إلى أن هذه المجاهدة لا تكون إلا بالاستعانة بخالقها فقال: "فمن عرف أصول النفس وجبلاتها عرف أن لا قدرة له عليها إلا بالاستعانة ببارئها وفاطرها". ومعرفة أسرار مجاهدة النفس كما بين السهروردي هي السبيل الأمثل لترويضها وبنائها على أسس متينة، وتقديم أنموذج ينهض بنفسه وبعمرانه. ويرى الشيخ الأكبر ابن عربي -رحمه الله- "أن سبب اختلاف الأخلاق في الناس، هو اختلاف قوى النفس الثلاث فيهم، وهي الشهوانية، والغضبية والناطقة. وأن امتلاك الأخلاق، هو تذليل الشهوانية منها، والغضبية، وتمييز عادات النفس الناطقة، واستعمال المحمود من أفعالها. وطريق التدريج لاستعمال العادات الجميلة، والعدول عن العادات المستقبحة، هو التدرج في تذليل هاتين القوتين".

فيجب على الإنسان المتخلق "أن يكون متفقدا لجميع أخلاقه، متيقظا لجميع معايبه، متحرزا من دخول كل نقص عليه، مستعملا لكل فضيلة، مجتهدا في بلوغ الغاية، عاشقا لصور الكمال، ملتذا بمحاسن الأخلاق، متيقظا لمذموم العادات، معتنيا بتهذيب نفسه، غير مستكثر ما يقتنيه من الفضائل، مستعظما لليسير من الرذائل، مستصغرا للرتبة العليا، مستحقرا للغاية القصوى، يرى التمام دون محله، والكمال أقل أوصافه" كما يرى ابن عربي. ولا يحصل ذلك كما يرى الشيخ بن عجيبة -رحمه الله- إلا بسفر القلوب إلى المحبوب حيث يقول: "لا مسافة بينك وبينه، حتى تطويها رحلتك، ولا قطعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك" وهو يبين أهمية هذه النقلة عند الصوفية في بناء إنسان سوي ومتخلق.

ويصف هذه الرحلة قائلا "إذ يسافر أولاً: من موطن الذنوب والغفلة، إلى موطن التوبة واليقظة، ويسافر ثانيًا: من موطن الحرص على الدنيا والانكباب عليها إلى موطن الزهد فيها والغيبة عنها. ويسافر ثالثًا: من موطن مساوئ النفوس وعيوب القلوب، إلى موطن التخلية منها والتحلية بأضدادها. ويسافر رابعًا: من عالم الملك إلى شهود عالم الملكوت، ثم إلى شهود الجبروت، أو من عالم الحس إلى عالم المعنى، أو من عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، أو من شهود الكون إلى شهود المكون، وهذا السفر إنما هو معنوي كناية عن مجاهدة النفوس ومحاربتها في ردها عن عوائدها ومألوفاتها، وفي تخليتها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل". ومن هنا تكون الصورة قد أصبحت واضحة مع هذه الرحلة التربوية التي تؤسس لبناء إنسان كامل يتخلق بأخلاق القرآن.

وخلاصة القول، فإنه لا يمكن الحديث عن بناء للعمران بعيدا عن بناء الإنسان، فالإنسان هو أساس بناء العمران. والأنموذج التربوي الذي يقدمه المنهج الصوفي يمثل طوق النجاة، شريطة تطبيقه على الوجه الصحيح. وحينها سنكون حتما أمام الأنموذج الأمثل الذي سيقود هذه الأمة الى بر الأمان وينهض بعمرانها من جديد، لأن أغلب مشاكل الأمة اليوم أساسها وجوهرها الوازع الأخلاقي، فقد تجد الفرد يقوم بعبادته من صلاة وصيام، وزكاة… ولكنه يزني ويكذب ويسرق الخ… وبالتالي ما لم تخضع نفوس الأفراد إلى التزكية والتربية، والترقي في مراتب السلوك، سوف يصبح الأنموذج الدوابي هو السائد في مجتمعاتنا الإسلامية، حيث تختل موازين الشرع وتصبح الغلبة للأقوى، وبالتالي فالدرس الصوفي يقدم لنا حلولا ناجعة لإعادة تخليق الأفراد داخل مجتمعاتنا الإسلامية، بأسلوب ممنهج ومدروس مبناه تصفية القلوب وتزكية النفوس للوصول إلى أنموذج الإنسان المتخلق المستخلف في الأرض المساهم في النهوض بعمرانها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.