شعار قسم مدونات

"سواكن وتركيا".. هل سيتغير وجه الاقتصاد في البحر الأحمر؟

blogs السودان وتركيا

في عطلة "الكريسماس" حل الرئيس التركي على الخرطوم ضيفا فوق العادة، وقد حظيت زيارته بتغطية محلية ودولية كثيفة وسط استقبال شعبي لاهب يشبه إلى حد كبير إستقبال إمبراطور، لا إستقبال رئيس جمهورية في القرن العشرين.. وُقعت خلال هذه الزيارة عشرات الاتفاقيات، منها ما كان معلنا ومنها ما ظل مجهولا وغير معلن؛ وأهم هذه الاتفاقيات على الإطلاق اتفاقية منح الخرطوم للحكومة التركية جزيرة "سواكن" في البحر الأحمر لتديرها لمدة معينة، مع إنشاء مصنع للسفن الحربية والمدنية فيها.

 

تمت مجابهة الزيارة الأردوغانية للسودان بحالة من السخط الشديد في الإعلام المصري والإعلام السعودي والإماراتي، الذي لم يرَ في الزيارة سوى لقاء لتنفيذ أجندة ما يسمونه "التنظيم الدولي للإخوان"، إذ تذكر هذا الإعلام فجأة "إخوانية" عمر البشير، صديقهم الذي يحارب معهم في اليمن.

 

كانت تغطية هذا الإعلام في البداية تركز على  تذكير السودانيين ببعض المرارات التاريخية من حقبة حكم الأتراك للسودان، في محاولة منه لصنع رأي عامّ سوداني رافض للزيارة. وعندما وجد تصريحا للسيدة مريم الصادق المهدي تطالب فيه الأتراك بالاعتذار ركز عليه في تغطياته، متجاهلا تماما الاتفاقيات المهمة التي وقعتها تركيا مع السودان. وفجأة، ظهر تصريح لأردوغان يتحدث فيه عن موافقة السودان على منح تركيا الحق في إدارة جزيرة "سواكن" على البحر الأحمر لتقوم تركيا بترميم الآثار العثمانية هناك؛ فانتفض هذا الإعلام وأبواقه، متباكين على سيادة السودانيين، لاعنيين السودان، الذي "يهدد الأمن القومي العربي" (المزعوم) ببناء قاعدة عسكرية تركية على البحر الأحمر لتهدد السعودية ومصر.

 

صورة لجزيرة سواكن السودانية  (ناشطون)
صورة لجزيرة سواكن السودانية  (ناشطون)

ورغم النفي السوداني والتركي، فقد واصل هذا الإعلام ترديد هذه المزاعم، بهدف الضغط على السودان لإلغاء هذه الاتفاقية الإستراتيجية. فما سرّ رعب السعودية والإمارات ومصر من التفاهم التركي السوداني حول "سواكن"؟ تتعلق المسألة ببساطة بما يطلق عليه حرب الموانئ المشتعلة في الشرق الأوسط؛ فقد قدر الخالق أن الجزء الأكبر من تجارة العالم تمر عبر الشرق الأوسط الموجود في منتصف العالم تماما. وفي عالم ما بعد النفط والغاز، فإن أهمية مورد التجارة البينية تزداد، فاليوم تكسب دول لا تنتج أي شئ، مثل الإمارات، مليارات الدولارات فقط لأنها تعمل على المسائل اللوجستية وكطريق للتجارة بين الشرق والغرب.

 

والتنافس حول تجارة الشرق ليس حكرا على هذه القوى الإقليمية الصغيرة، بل حتى القوى الدولية الكبرى في ما يبدو هي جزء منه، فقد أعلنت الصين عن مخطط سمته "طريق الحرير" لتمرير تجارتها حول العالم وتحالفت مع باكستان وإيران. وهذا ما جلب سخط وغضب الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلة في رئيسها ترمب، الذي تحدث بكلام غير لائق عن باكستان. كما قام بتعليق المعونات الأمريكية لها بسبب ما ادعى أنه "دعم باكستاني للإرهاب". فإذا كان هذا هو حال الدول العظمى فكيف بالدول الإقليمية الصغيرة؟

 

اليوم، هناك صراع الموانئ، التي كانت الإمارات تديرها لوحدها، مستغلة سذاجة بعض الدول أو فساد بعض الحكومات لتقوم بشراء موانئ وتعطيلها أو جعل هذه الموانئ "تخدم" على ميناء "جبل علي" في دبي فقط. واليوم، دخلت معها قطر في منافَسة بافتتاحها "ميناء حمد"، الذي تحدثت عنه قطر قائلة إنه سيكون الميناء "العظيم" الشرق الأوسط، ولا سبيل لذلك إلا بخلق شركاء لهذا الميناء من الموانئ الإقليمية.

 

تركيا هي معبر نحو شرق أوروبا، بل حتى نحو وسط أوروبا، وهي كذلك معبر هذه الدول الأوربية للشرق الأوسط، ولذلك فإن التعاون التركي القطري السوداني يستهدف السيطرة على تجارة العالم القديم كله
تركيا هي معبر نحو شرق أوروبا، بل حتى نحو وسط أوروبا، وهي كذلك معبر هذه الدول الأوربية للشرق الأوسط، ولذلك فإن التعاون التركي القطري السوداني يستهدف السيطرة على تجارة العالم القديم كله
  

وقد وجدت قطر في موانئ السودان شريكا مناسبا جدا، فالسودان يطل على سبع دول، أربع منها هي دول داخلية ليست لها موانئ على البحر، ما يعطيه ميزة كبرى في التجارة البينية. كما يحيط السودان بدولتين هما مصر واثيوبيا، وعدد سكان الدولتين يتجاوز الثمانين مليونا لكل منهما؛ والأهم من ذلك كله أن السودان هو معبر وطريق سالك نحو عمق القارة السمراء، الذي تختزن ثروات تقدر بمليارات الدولارات، ولذلك فقطر دخلت مستثمرة في الموانئ السودانية لتطويرها لتكون شريكة لـ"ميناء حمد" القطري.

 

من جانب آخر، فإن تركيا هي معبر نحو شرق أوروبا، بل حتى نحو وسط أوروبا، وهي كذلك معبر هذه الدول الأوربية للشرق الأوسط؛ ولذلك فإن التعاون التركي القطري السوداني يستهدف السيطرة على تجارة العالم القديم كله. فقطَرتسيطر، بالتعاون مع "ميناء جودر"، على تجارة آسيا مع الشرق الأوسط. وتسيطر السودان، بالتعاون مع موانئ الصومال وجيبوتي، على تجارة أفريقيا مع الشرق الأوسط. كما تسيطر تركيا على تجارة أوروبا مع الشرق الأوسط. هذا الأمر سبب الرعب للإمارات، لأن فيه تنشيطا لـ"ميناء حمد" القطري على حساب "جبل علي" وخلق منافسين أقوياء للموانئ التي سيطرت عليها الإمارات في اليمن تحت غطاء مقاتلة الحوثيين ضمن التحالف العربي.

 

هذا حال الإمارات، أما السعودية ومصر فرعبهما نابع من إمكانية قدرة تركيا على "خطف" سياحة البحر الأحمر من يديهما وجعل مدينة نيوم (المزعومة) ومنطقة البحر الأحمر السياحية فكرة "خاسرة جداً"، لأن الدولتين ليست لهما القدرة على منافسة الأتراك في صناعة السياحة. كما أن قطر دخلت مستثمرة في الآثار السودانية، بترميم وتمويل واكتشاف أسرار الحضارة وتنوي جذب قطاعات واسعة من محبي السياحة الثقافية لصالح مشروعها الاستثماري في السودان. ولهذا فقد اختار السودان مصلحته عندما وضع يده في أيدي من يريدون مساعدته ونزعها من أيدي من يتربصون به ويحتلون أرضه ويسرقون ثرواتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.