شعار قسم مدونات

يوم قررت أن لا أهاجر من المغرب أبداً

مدونات - الهجرة

قبل بضع سنوات كنت سعيداً جداً أن حالة من التفاؤل تسود بلدي المغرب. كانت وتيرة الهجرة إلى الخارج تنخفض بشكل ملحوظ بل وعاينت حالات لمغاربة مقيمين بالخارج قرروا العودة والاستقرار نهائياً في البلد الأم.. كنت أحس حركية وديناميكية وكانت أجواء صدقاً إيجابية.. منذ بضعة أشهر وفي وقت وجيز طفت فكرة الهجرة من جديد على السطح وبقوة أطر، مهندسون وأطباء يغادرون أفواجاً، حتى قوارب الموت المقيتة التي حسبتها لوهلة صارت من الماضي (أو صارت حكراً على المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء) عادت وبقوة لتتصدر عناوين الجرائد والمنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي، ها نحن من جديد عدنا إلى كابوس البحر الأبيض المتوسط المهين والمؤلم. لا أدري ما الذي حصل بالضبط؟ أ لأن الظروف الاقتصادية في أوروبا تحسنت واستعادت بلدان عديدة عافيتها وأصبحت تغري من جديد بالهجرة إليها؟ أم أن سحابة كثيفة من اليأس والإحباط خيمت فجأة فوق سماء البلاد وأفقدت الشباب في لمح البصر الأمل في الغد الأفضل فوق هذه الأرض؟ أهو التجنيد الإجباري الذي فرض مؤخرا؟ أم أن الأمر مجرد اتباع جماعي لموضة عابرة توشك أن تخمد بعد حين؟

تخرجت كمهندس برمجيات منذ تسع سنين إبان الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة. كانت فرص العمل في تلك السنة بسبب الأزمة أقل مما اعتاد عليه مهندسو البرمجيات في السنوات السابقة، التحقت مضطراً نسبياً بوظيفة شبه حكومية لمدة خمس سنوات ثم غادرتها. في البداية حاولت بصدق أن أخلق قيمة مضافة في عملي وأصلح بعض الأمور التي بدت لي غير مناسبة، مع مرور الوقت صرت أنا من يتغير إلى الأسوأ، فقدمت استقالتي بعد تفكير عميق. مرت أربع سنوات على الأمر وأعتقد أني أملك اليوم الأمانة الكافية لأحمل نفسي مسؤولية فشل تجربتي هناك. امتلكت نية سليمة لكني افتقدت المنهج والعقلية السليمين (بحكم قلة خبرتي وحداثة سني أيضاً). أسست بعدها شركة برمجيات وكانت البداية صعبة جداً، إذ يحتاج الأمر وقتاً لتفهم كيف تسير بعض الأمور. هناك مهارات متعلقة بالعمل الحر، لم أتعلمها في المدرسة لكني تعلمتها على المباشر وبطريقة مؤلمة نوعاً ما، احتجت أن أغير جلدي وألواني أكثر من مرة في هذه السنين الأربع، لأجد الصيغة المناسبة وأتعايش مع مختلف الإكراهات التي يفرضها العمل الحر وأظن أنني راضٍ عما تحقق خلال هذه المدة بحلوه ومره.

أيها الهاربون، أيها المنهزمون، أيها الأنانيون الفارون من جحيم الوطن إلى نعيم أوروبا، أنتم لن تصيروا يوماً مواطنين أوروبيين ولو حملتم جوازات سفر أوروبية ولن تحققوا يوماً الاندماج.

السؤال الذي يطرح نفسه، ما علاقة كل هذا بموضوعنا؟ علاقته أني منذ زمن بعيد نزعت فكرة الهجرة تماماً من كياني. لا أفكر بها البتة ولا تراود خيالي حتى في أحلام ما بعد منتصف الليل. قبل أن أتخرج من مدرستي المغربية قبلت بمدرسة فرنسية وكان بإمكاني الالتحاق بها لكني لم أذهب (صحيح أني لم أحصل على المنحة لكني كنت أملك أن أكافح وأعمل هناك بالتوازي مع الدراسة لو كنت صدقاً راغباً في الأمر). بعد تخرجي حصلت على فرص عديدة للعمل بباريس (ولا زلت) لكني قط لم أرغب في الأمر. زرت أوروبا مرات عديدة كسائح وأعجبت كثيراً بحضارتها وعمرانها ونظافة شوارعها وروح المواطنة في شعوبها، لكن الأمر قط لم يغرني بالرحيل إلى هناك. فرق كبير بين أن تزور مكاناً وبين أن تقيم فيه. إن عيون أوروبا الشاحبة ووجهها الرمادي الكئيب كان ليجثم على أنفاسي بلا شك، الفتى الذي رفض الذهاب إلى تلك المدرسة الفرنسية منذ 12 سنة هو نفسه كاتب هذه السطور.

لا زلت على قيد الحياة وظلت فكرتي راسخة في مكانها. أنا لن أهاجر، لن أهرب من المنهزمين لأحتفل مع المنتصرين، لقد ولدت هنا وهذه حقيقتي وإني لن أهرب منها، قضي الأمر! الرزق والثروات ليست حكراً على مكان دون آخر، سواء كنت في الصومال أو المغرب أو أمريكا، فإمكانية أن تحقق نجاحاً أو تحقق أرباحاً قد لا يختلف بتغير المكان بالشكل الذي يتصوره معظم الناس (بل هناك من يرى أن الدول النامية بها فرص أكبر لأن الفضاء بها نسبياً ليس مشبعاً ومكتظاً كالدول المتقدمة). الفرق أن ما يصلح في بلاد قد لا يصلح في أخرى، يجب أن تكون انسيابياً كفاية لتفهم حقيقة الميدان في كل بلاد وتعرف كيف تتصرف. هناك ناجحون وأثرياء في كل مكان حتى في أكثر البقع بؤساً. أنت أيضاً لك نصيب في بلدك ويجب أن تقاتل لأجله، إنه ليس قدرك أن تعيش غريباً عن بلادك فقط لأنها فقط فقيرة، هي في الحقيقة ليست فقيرة إلى الحد الذي تعتقد، قد تكون عقليتك فقط هي الفقيرة.

أين هي الروح العربية الإسلامية الأبية القديمة؟ أين هي الأنفة والنخوة؟ أين هي الروح القتالية والآمل؟ لماذا انهارت عقليتنا بهذه الشكل؟ لماذا صرنا جبناء أنانيين نريد الحل السريع فقط؟ لماذا نغادر بلداننا الجريحة التي تحتاجنا لنذهب نساهم في بناء دول هي أصلاً قوية تمعن متى سنحت الفرصة في إذلالنا؟ لماذا نترك نصيبنا هنا لنتبع السراب هناك؟ لماذا صرنا نبحث عن الحل السهل ونطلب الرفاهية المنشودة في الغرب، متنكرين لواجباتنا تجاه الوطن؟ ألسنا نؤمن بالجنة ونعيمها والخلود فيها، ماذا تخسر إن عشت حياتك الدنيا مرابطاً مؤمناً بقضية تستحق أن تستنفذ عمرك لأجلها؟ متى ستحل مشاكلنا إن كانت عقليتنا الانهزامية هي رأس المشكل؟ كم تحز في النفس مشاهد طوابير الانتظار أمام القنصليات والسفارات، كم يحزن أن يرى المرء الآمل في كل مكان إلا في الوطن. كثير ممن كلمت من المهاجرين ذكروا أسباباً كضعف النظام الصحي والقضائي والتعليمي، الرشوة والمحسوبية، مناخ العمل، الحريات.. كلام يؤخذ منه ويرد عليه لكنه في أكثره يذكرني بقصة طريفة لكنها بليغة: طبيب انسل من عمله خلسة وذهب إلى مصلحة إدارية، لم يجد الموظف هناك فظل يسب الحكومة والنظام والبلاد البئيسة التي ولد بها. نفس الموظف انسل من عمله خلسة وذهب إلى المستشفى لكنه لم يجد ذات الطبيب، فظل هو الآخر يَسب النظام والحكومة والبلاد البئيسة، الخلل ليس بالدرجة الأولى في أنظمة الحكم ولا الأوطان، الخلل في أفراد لم يفهموا أبداً أن التغيير يبدأ فقط من أسفل الهرم لأن ليس في الهرم على الحقيقة إلا أسفله.

لو استيقظنا غداً جميعنا بنية ألا نرمي الأزبال لصارت بلداننا غداً نظيفة مباشرة. لن يحتاج الأمر لمخططات خماسية استعجالية، يحتاج فكرة بسيطة تزرع في رأس كل مواطن وتشربها روحه. البلدان الغربية ليست أفضل منا إلا بعقلية مواطنيها، يجب أن نمتلك كأفراد العقلية السليمة وستحل كل مشاكلنا بأسرع مما نتصور. إن تغيرنا يتغير كل شيء من حولنا. أنا واثق مما أقول، لا نهضة من غير ذلك. أيها الهاربون، أيها المنهزمون، أيها الأنانيون الفارون من جحيم الوطن إلى نعيم أوروبا، أنتم لن تصيروا يوماً مواطنين أوروبيين ولو حملتم جوازات سفر أوروبية ولن تحققوا يوماً الاندماج. نحن ننتمي لثقافة عميقة مختلفة ولفكرة مغايرة لكل ما تؤمن به أوروبا، حتى لو حاولنا فنحن لا نستطيع الانسلاخ من حقيقتنا لأنها تجري في عروقنا، وإن المشاعر الغربية تجاهنا لن تتغير قط حتى لو أوهمتنا ظروف لحظية بغير ذلك! أيها الخائفون المرعوبون المغادرون تحت جنح الليل، أسسوا المشاريع والشركات، امتلكوا روح المبادرة، دكوا الصخور واستخلصوا أرزاقكم وحقوقكم في بلادكم، عيشوا بشرف أو موتوا وأنتم تحاولون! لا أدري ما تخبأه السنون القادمة ولا أدري إلى ما يصير الوطن، لكني لن أغادر أبداً، فلتشتعل النار هنا ولأحترق بلهيبها، قد أموت في الراجح دون أن أرى شيئاً من أحلامي يتحقق، لكن أبنائي سيعرفون أن أباهم لم يهرب وحاول حتى النهاية حتى يعيشوا حياة أفضل ولو نسبياً، فوق الأرض التي ولدوا فيها وإليها ينتمون. قال المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمة الله عليه: "ما من نجاح أو فشل، هناك شيء اسمه الواجب، وأنا قمت به على قدر استطاعتي" فهلا قمنا بالواجب على قدر استطاعتنا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.